الإسلام والخصوصية الحضارية 2  3

الإسلام والخصوصية الحضارية (2 - 3)

الإسلام والخصوصية الحضارية (2 - 3)

 لبنان اليوم -

الإسلام والخصوصية الحضارية 2  3

عمار علي حسن

بات من الواضح لكل ذى عين بصيرة وعقل فهيم أن المنطلقات والمعالم الفكرية لتيار التوجه الإسلامى الجديد، تقوم فى جزء كبير منها على حرص شديد لا يخطئه الباحث على توكيد حد أقصى من التميز والتفرد للإسلام ونظمه، ينفى عنه مشابهة أى عقيدة أخرى، وأى حضارة أخرى، وأى نظام غيره، عرفه الناس قديماً أو يعرفونه حديثاً.

لكن يجب أن يدرك هؤلاء، إن كانوا يرومون ما هو فى مصلحة الإسلام كدين عظيم، ما أدركه الدكتور كمال أبوالمجد فى كتابه القيم «حوار لا مواجهة»؛ حيث ينبه الباحثين عن الخصوصية الحضارية بقوله: «إذا كان الحرص على تقرير التميز أمراً مشروعاً تماماً لتحقيق ذاتية الأنا الحضارية، ولرسم حدودها داخل العقل والنفس جميعاً، ولوضع الخط الفاصل بين الذات وبين الآخرين، ومنع ذوبان تلك الذات فى غيرها، فإن الإسراف الشديد فى تقرير هذا التميز، وتلك الخصوصية، والإحساس بالضيق والرغبة الملحة فى الإنكار والرفض تجاه أى دعوى لتقرير المشابهة أو الاشتراك فى الرؤية النظرية، والموقف العملى من الآخرين، يحتاج إلى مراجعة واستدراك من وجهة نظر تاريخية واجتماعية، ووجهة نظر إسلامية خالصة».

إن البعض يضيق من «الخصوصية» إلى درجة تجعل منها قفصاً حديدياً يحيط بالفرد من كل جانب، ويكاد أن يخنقه، أو نوعاً من «الوسواس القهرى» الذى يطارد الإنسان فى صحوه ومنامه، ويجعله يشعر بالذنب الدائم، والتقصير المستمر. ومثل هؤلاء يختلط لديهم العقدى الثابت بالاجتماعى المتغير، ويحملون الدين أحياناً فوق طاقته، أو أكثر مما يطلبه الدين نفسه، فى قيمه العامة التى تحض على الفضيلة، وتنهى عن الرذيلة.

والمطلوب هو أن تكون الخصوصية سلاحاً حقيقياً فى وجه تجبر العولمة، وشعورها الزائف بالقدرة على صهر البشرية جمعاء فى بوتقة واحدة، أو تحويل الناس إلى أنماط متشابهة، بل متماثلة، تفكر بطريقة واحدة، وتعتنق ثقافة واحدة، وتعيش بأسلوب واحد. وهذا السلاح لا يقوم بجلد الذات، وإغلاق الباب أمام كل ما يرد من «الآخر»، بل يقوم على هضم كل ما لدى الآخرين من إمكانات، وتطويعها لخدمة المصلحة العامة للمسلمين، وهذا ما كان يجرى فى الأيام الزاهرة للحضارة الإسلامية، حيث نشطت حركة الترجمة، واستفاد فلاسفة المسلمين مما تركته القريحة اليونانية، واستفاد العرب من طريقة بناء الفرس والروم للهياكل والمؤسسات السياسية، ونهل المسلمون جميعاً مما كان لدى البشر وقتها من تقدم فى الطب والهندسة، فحازوا بذلك مقدرة على قيادة من على الأرض جميعاً، قروناً طويلة.

إن هناك ثنائية متعايشة بين الخاص والعام فى الأديان من دون تفرقة أو تمييز. فالمبشرون بالدعوات الدينية، يقولون فى مرحلة التمكن إن لديهم «منظومة قيمية» تنطبق على كل شعوب الأرض. أما فى أوقات الضعف، وحين يكون أصحاب هذه الدعوات مستهدفين من قبَل الأغيار الأقوياء، يطلبون من هؤلاء ألا يدسوا أنوفهم فى شئونهم، وألا يفرضوا عليهم ثقافة بعينها، ويحترمون خصوصيتهم، ويقرون بتعددية تسمح للجميع بأن يتمسكوا بمعتقداتهم، ويمارسوا طقوسهم الدينية والثقافية. وهذا لا يعنى أن عالمية الدعوة أمر غير واقعى أو مرتبطة بمرحلة التمكن فقط، بل يعنى فى المقام الأول أن هذه العالمية، الرامية إلى هداية البشر أجمعين، يجب أن تكون فى بناء العقيدة وتعلم العبادات أو أركان الدين، ويجب ألا تتغول لتفرض نمطاً ثقافياً محدداً، فهذا فوق طاقتها، ولا طائل كبيراً من ورائه، إنما الجدوى تتحقق حين تركز الدعوة على منح الثقافات السائدة إطاراً أخلاقياً عاماً، لا يجور على التعدد والتنوع، ولا يقطع جذور مجموعة بشرية فى أى مكان.

والخصوصية الثقافية متعددة المنابع والروافد، فيها من الدين الكثير، وفيها أيضاً من الفلكلور والتقاليد والأعراف السائدة، كما أن ما يمكن اعتباره، أو ما هو بالفعل «ثقافى خاص» أمر واسع، فيه من الأشياء المادية، بقدر ما فيه من المعانى والأفكار والتصورات والرموز. وقد بذل البحث العلمى، لا سيما فى مجال الأنثروبولوجيا والاجتماع، جهداً فائقاً فى تناول كل هذا بفروعه وتفاصيله، موضحاً نصيب الدين فيه، أو ما هو راجع إلى جذر دينى.

وأسهم الفقهاء وأصحاب الفتوى وأهل الذكر جنباً إلى جنب مع الباحثين والمفكرين والنقاد بمختلف ألوانهم ومشاربهم فى الجدل الذى دار ويدور حول ما هو ثقافى إسلامى، بدءاً بالأزياء والملابس وانتهاءً بالأدب والفن. والخوض فى هذا المضمار قد لا يأتى بجديد، ولا يضيف كثيراً إلى رؤية الخطاب الإسلامى لقضية الخصوصية الثقافية.

(ونكمل غداً إن شاء الله تعالى)

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الإسلام والخصوصية الحضارية 2  3 الإسلام والخصوصية الحضارية 2  3



GMT 18:40 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

أسقط الركن الثالث

GMT 18:39 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

بين القوانين والإعلانات والأخلاق

GMT 18:38 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

عام «سَوْقَنَة» القضايا

GMT 18:37 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

البراغماتية الإيرانية في انتظار الاختبار الصعب

GMT 18:18 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

2026... عام التوضيحات؟

GMT 18:14 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

العراق ما بين تاريخين

GMT 18:13 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

يحمل اسم زويل

GMT 18:12 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

هند رستم.. الأنوثة قبل الإغراء دائمًا!

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 18:08 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

نتنياهو يعلن اعتراف إسرائيل بأرض الصومال دولة مستقلة
 لبنان اليوم - نتنياهو يعلن اعتراف إسرائيل بأرض الصومال دولة مستقلة

GMT 17:24 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

الجيش اللبناني يستعد للمرحلة الثانية من حصر السلاح
 لبنان اليوم - الجيش اللبناني يستعد للمرحلة الثانية من حصر السلاح

GMT 12:50 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الثور الأحد 1 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 11:49 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

من المستحسن أن تحرص على تنفيذ مخطّطاتك

GMT 22:30 2021 الأحد ,10 كانون الثاني / يناير

يشير هذا اليوم إلى بعض الفرص المهنية الآتية إليك

GMT 22:08 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج القوس الأحد 1 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 12:17 2020 الثلاثاء ,02 حزيران / يونيو

كن قوي العزيمة ولا تضعف أمام المغريات

GMT 13:08 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج السرطان الأحد 1 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 21:05 2021 الأحد ,10 كانون الثاني / يناير

تطرأ مسؤوليات ملحّة ومهمّة تسلّط الأضواء على مهارتك

GMT 05:03 2022 الأربعاء ,06 تموز / يوليو

أفكار بسيطة في الديكور لجلسات خارجية جذّابة

GMT 19:23 2021 الجمعة ,16 تموز / يوليو

حريق كبير في بينو العكارية اللبنانية
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon