العرب والمعارك الصغرى 1  2

العرب والمعارك الصغرى (1 - 2)

العرب والمعارك الصغرى (1 - 2)

 لبنان اليوم -

العرب والمعارك الصغرى 1  2

عمار علي حسن

لا يغلق زحام التنافس الشديد بين الدول الكبرى فى العالم على المكانة السياسية والاقتصادية والعسكرية، الطريق تماماً أمام أى دولة راغبة فى أن تنحت لها دوراً، سواء على المستوى الإقليمى أو الدولى، لكن على النخبة السياسية فى هذه الدولة أن تجلس قليلاً أو كثيراً لتتخيل هذا الدور، وتوظف إمكاناتها المادية والبشرية والعلمية فى تحقيقه.

وهذا الأمر ينطبق على العالم العربى الذى خاض معارك التحرير فى منتصف القرن العشرين ضد الاستعمار، ليجد نفسه الآن منهكاً بفعل تعثُّر الثورات والانتفاضات، وتوحُّش التيارات الدينية المتطرّفة، بعد أن عانى طويلاً من فساد واستبداد صاحب مرحلة ما بعد الاستقلال، التى أخفقت فى تحقيق التكامل الوطنى والانصهار الاجتماعى الطوعى عبر الديمقراطية والتنمية والعدل الاجتماعى وحقوق المواطنة، وتركت الدول هشة فى مواجهة أى تقلبات تهز أركانها الاجتماعية على أساس طائفى أو عرقى أو جهوى أو طبقى أو أيديولوجى.

وبمرور السنين تغيرت موازين القوى، وتراجعت قدرات العرب، الذين كان يقال إنهم القوة السادسة فى العالم عسكرياً قبل خمسة عقود فقط، لتصبح إمكاناتهم مجتمعة فى التسليح أقل من إسرائيل، وفى الاقتصاد أضعف من إسبانيا، وفى عالم الترجمة والنشر أدنى من دولة أوروبية صغيرة فقيرة هى اليونان، أى أنهم فقدوا، إلى حين، القدرة على أن يجعلوا من أنفسهم رقماً ذا بال فى المعادلة الدولية.

وكان هناك منطقان لإيجاد هذا الرقم الأول هو انتظار مشروع عربى كبير وشامل، طرح تارة فى إطار الوحدة وأخرى فى الاكتفاء بتنسيق السياسات وتعزيز العلاقات فى مختلف المجالات، أما الثانى فكان يحتاج إلى خيال لم يتأت حتى الآن، يدفع فى اتجاه الانتقال من إدارة المعارك الكبرى فى عالم الحرب والمال، إلى الصغير من المعارك، لجنى فوائد سريعة ترمم بعض الشروخ التى مزّقت البنيان العربى على مدار العقدين الأخيرين، وتخلق أفقاً جديداً أمام كتلة بشرية وجغرافية ولسانية ودينية غالبا، صار ينظر إليها، حتى من بين أبنائها بأنها بلا مستقبل.

فبدلاً من انتظار لحظة تاريخية فارقة يستعيد فيها العرب جزءاً من مجدهم الضائع وحضاراتهم العظيمة التى أهدت الدنيا عطايا مادية لا تنسى، ونفحات روحية لا تزال متوهجة، عليهم أن يعملوا بجد واجتهاد فى سبيل تحسين أوضاعهم الراهنة بالقدر الذى يسمح لنظامهم الإقليمى بالبقاء على قيد الحياة، أو على أقل تقدير الحيلولة دون تدهور أوضاعهم إلى الحد الذى يخرجهم تماماً من «زمام التاريخ» أو يؤدى إلى «إعلان وفاتهم»، حسبما قال الشاعر الشهير نزار قبانى ذات يوم بقصيدة بكائية أبدعها فى لحظة يأس جارف، تصور فيها أن الغد سيكون، بالضرورة، أسوأ من اليوم، وأن العروبة تسير، لا محالة، إلى ذهاب أبدى.

إن معطيات التاريخ تُهدى إلينا حكمة عميقة وناصعة عن أمم لم تقعدها الهزائم الكبرى أو النكسات الشاملة والوهن العام الذى تمكن منها حتى النخاع، عن محاولة كسب النزال المحدود والاشتباك المحدد مع وقائع حياتية جانبية، نراها صغيرة، وهى من عظائم الأمور، حتى خرجت من ضيق إخفاقها إلى براح الإنجازات العريضة، التى دفعتها إلى مقدمة الصفوف، بعد أن كانت قبل عقود فى عداد الأمم المغيبة عن التدفّق الرئيسى لحركة العلاقات الدولية.

ولعل ما مرت به الصين والهند، مثلاً لا حصراً، يدلل على هذا الأمر بجلاء لا يشوبه غموض، ووضوح لا يصيبه لبس، ولم يكن بوسع هاتين الدولتين الكبيرتين أن تنطلقا إلى مصاف القوى العظمى فى العالم، لولا أن نخبة الحكم والقوة الفاعلة امتلكتا قدرة هائلة على تخيل أدوار من عدم، ثم الانتقال من هذا الخيال الإيجابى الخصب إلى وضع استراتيجيات للتقدم فى الحياة.

فالصين ما ظن أحد أنها ستفيق من حرب الأفيون، وتسترد وعيها، وتطلق طاقتها فى اتجاه المزاوجة بين ما فى القيم التقليدية الكونفوشيوسية من جوانب أخلاقية إيجابية وما فى ثورتها الحمراء من اتجاه صارم وقوى إلى تهيئة المجتمع لحياة عملية مختلفة، ثم تقرر، بعد الدخول فى جدل عميق حول الملامح النهائية للأيديولوجيا وحدود التفاعل المرن مع العالم، أن تخط لنفسها بثقة طريقاً مستقيماً، جنت منه ثروة طائلة، وحققت لبكين وجوداً اقتصادياً، ومن ثم ثقافياً وسياسياً أحياناً، فى كل مكان على سطح الأرض.

(ونكمل غداً إن شاء الله تعالى)
 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

العرب والمعارك الصغرى 1  2 العرب والمعارك الصغرى 1  2



GMT 18:40 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

أسقط الركن الثالث

GMT 18:39 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

بين القوانين والإعلانات والأخلاق

GMT 18:38 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

عام «سَوْقَنَة» القضايا

GMT 18:37 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

البراغماتية الإيرانية في انتظار الاختبار الصعب

GMT 18:18 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

2026... عام التوضيحات؟

GMT 18:14 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

العراق ما بين تاريخين

GMT 18:13 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

يحمل اسم زويل

GMT 18:12 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

هند رستم.. الأنوثة قبل الإغراء دائمًا!

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 18:08 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

نتنياهو يعلن اعتراف إسرائيل بأرض الصومال دولة مستقلة
 لبنان اليوم - نتنياهو يعلن اعتراف إسرائيل بأرض الصومال دولة مستقلة

GMT 17:24 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

الجيش اللبناني يستعد للمرحلة الثانية من حصر السلاح
 لبنان اليوم - الجيش اللبناني يستعد للمرحلة الثانية من حصر السلاح

GMT 12:50 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الثور الأحد 1 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 11:49 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

من المستحسن أن تحرص على تنفيذ مخطّطاتك

GMT 22:30 2021 الأحد ,10 كانون الثاني / يناير

يشير هذا اليوم إلى بعض الفرص المهنية الآتية إليك

GMT 22:08 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج القوس الأحد 1 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 12:17 2020 الثلاثاء ,02 حزيران / يونيو

كن قوي العزيمة ولا تضعف أمام المغريات

GMT 13:08 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج السرطان الأحد 1 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 21:05 2021 الأحد ,10 كانون الثاني / يناير

تطرأ مسؤوليات ملحّة ومهمّة تسلّط الأضواء على مهارتك

GMT 05:03 2022 الأربعاء ,06 تموز / يوليو

أفكار بسيطة في الديكور لجلسات خارجية جذّابة

GMT 19:23 2021 الجمعة ,16 تموز / يوليو

حريق كبير في بينو العكارية اللبنانية
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon