من زهران إلى خان كل منهما محكوم بالأسطورة القديمة

من زهران إلى خان... كل منهما محكوم بالأسطورة القديمة

من زهران إلى خان... كل منهما محكوم بالأسطورة القديمة

 لبنان اليوم -

من زهران إلى خان كل منهما محكوم بالأسطورة القديمة

بقلم: سليمان جودة

تقرأ عن زهران ممداني الفائز بمنصب العمدة في نيويورك، وتقرأ عن الآمال العريضة التي يضعها كثيرون بيننا على كتفيه، فلا تملك إلا أن تعود إلى أسطورة يونانية قديمة، ربما تسعفنا في وضع الأمر في إطاره الصحيح.

الأسطورة تقول إن رجلاً أقام فندقاً على جانب من الطريق، ولم تكن القضية أنه أقام فندقاً يؤوي إليه المسافرون، فما أكثر الذين أقاموا فنادق على كل طريق، ولكن القضية كانت أنه طلب ممن صمم الفندق أن يجعل جميع الأَسرّة مقاساً واحداً لا يزيد ولا ينقص. ولما راجعه المصمم وأفهمه أن الناس ليسوا سواء في الطول ولا في الوزن، ردّ فقال إنه يعلم ذلك، وإن عنده حلاً لهذه المسألة.

كان إذا نزل عنده مسافر طويل جزّ الطول الزائد في جسده، بحيث يكون مقاس الجسد بعد الجز على مقاس السرير بالضبط. وكان إذا صادف مسافراً قصير القامة راح يمط في جسده، لعله يأتي في النهاية على قدر طول الفراش الذي سيقضي الرجل ليلته عليه.

وهكذا اشتهر الفندق في الأسطورة اليونانية بأنه النُّزل الذي يجعل الزبائن على مقاسه هو، وأنه الفندق الذي يرحب بالمسافرين الذين يخضعون لضوابطه ومقاييسه، وأنه في آخر المطاف يصبّهم في قالب واحد لا يتغير ولا يتبدل.

شيء من هذا المعنى تجده في ممداني، أو بالأدق في ما سوف يكون عليه أن يقدمه من موقعه الجديد في مدينة اشتهرت بأنها المدينة الأكبر للمال والأعمال في العالم. فالعمدة الفائز معروف عنه أنه أقرب إلى اليسار الاقتصادي منه إلى اليمين الذي ينتمي إليه الرئيس ترمب مثلاً، وقد كان ترمب صريحاً حين اتهمه بأنه شيوعي، وكان يفعل ذلك معه على سبيل تخويف أهل المدينة، وخصوصاً الأثرياء بينهم من انتخابه.

ولكنهم انتخبوه وخيّبوا ظنّ ساكن البيت الأبيض، ولم يكونوا غائبين عن الوعي، وهُم ينتخبونه هو، لا المرشح المنافس، وإنما كانوا على نوع من الوعي الخفي بأن نيويورك بالنسبة للعمدة الفائز هي بالضبط كالفندق في الأسطورة القديمة.

إن رجلاً مثل زهران ممداني لا يمكن أن يصل إلى موقع العمدة في مدينة بحجم نيويورك، إلا بعد أن يكون قد مرّ بآلة غير مرئية تجعله على توافق مع المدينة، ومع النُّظم الحاكمة لها، والقوانين التي تحكم حركة المال فيها، والقواعد التي تمشي على أساسها، والتقاليد التي تعرفها وتلتزم بها منذ كانت بالصورة التي نراها عليها ونعرفها بها.

تسمع ما يقوله بعض أصحاب النوايا الحسنة بعد فوز الرجل، فتشعر وكأن العمدة الفائز سوف يدعو أبناء المدينة إلى إطلاق لحاهم وتقصير جلابيبهم، وسوف يطلب من نسائها ارتداء الحجاب، وسوف يرفع الأذان في سمائها عند موعد كل صلاة، وسوف يفرض ما تقول به الشريعة على المقيمين فيها، وسوف... وسوف... مما تفهمه إذا ذهبت تطالع الكثير المنشور عن فوزه، وعما هو منتظر منه، وعما سوف يلحق بمدينة المال والأعمال على يديه.

طبعاً هذا ليس تقليلاً من شأن فوزه الكبير، ولا من قيمة المفاجأة التي حقّقها بالفوز غير المتوقع، ولكن ما يقوله هذا الفوز يظل داخل الإطار الأميركي، ويظل على علاقة بما بين الجمهوريين والديمقراطيين من سباق سياسي، أكثر مما هو على علاقة بغير ذلك خارج الحزبين، ويظلّ مؤشراً سياسياً في الداخل الأميركي، أكثر من أي مؤشر آخر.

العمدة الفائز سوف يدخل «القالب النيويوركي» إذا صحّ التعبير، بل تستطيع أن تقول إنه دخله قبل أن يفوز، وإلا، ما كان في الأصل قد فاز، وسوف تجده منخرطاً في القالب الأميركي، الأكبر من القالب النيويوركي، وسوف تراه وهو يستجيب لأشواق أهل نيويورك من أصحاب المال والأعمال، ومن غير أصحاب المال والأعمال، وسوف يكون كأنه نزيل في الأسطورة اليونانية القديمة، وسوف تكون نيويورك كأنها الفندق في الأسطورة نفسها، وبكل المعاني التي أرادت تلك الأسطورة أن تقولها في وقتها، ثم في غير وقتها عندما يكون علينا أن نستدعي معناها.

وما يقال عن زهران ممداني يمكن أن يقال عن صديق خان في عاصمة الضباب أيضاً، فكل منهما مسلم، هذا صحيح، وكل منهما ملتزم بدينه، هذا صحيح كذلك، ولكن الأصح أن كل منهما يترك ما يخصّه خارج دار العُمدية، ويتصرف على أساس ما يخص المدينة التي يجلس على رأسها، وبما يتوافق مع تقاليدها وأعرافها المرعية. وما عدا ذلك آمال أطلقها الناس الطيبون في المدينتين وخارجهما عند فوز الرجلين، وبغير أن يراجعوا المعنى المستقر في الأسطورة القديمة.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

من زهران إلى خان كل منهما محكوم بالأسطورة القديمة من زهران إلى خان كل منهما محكوم بالأسطورة القديمة



GMT 19:59 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

عودوا إلى دياركم

GMT 19:58 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

عفونة العقل حسب إيلون ماسك

GMT 19:57 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

المفتاح الأساسي لإنهاء حرب السودان

GMT 19:56 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

أميركا تناشد ‏الهند وباكستان تجنب «الانفجار المفاجئ»

GMT 19:55 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

تجيير الهزيمة

GMT 19:53 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا والخطر على الهوية الوطنية والسياسية

GMT 19:52 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

أميركا... «أطلس» يُحجّم ومونرو يُقدّم

GMT 19:51 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

الهجرة إلى التاريخ في زمن الهزائم

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 15:48 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

لا تتورط في مشاكل الآخرين ولا تجازف

GMT 09:49 2022 الجمعة ,11 آذار/ مارس

عطور تُناسب عروس موسم ربيع وصيف 2022

GMT 16:41 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لتناول غذاء صحي ومتوازن في أماكن العمل

GMT 03:47 2012 الأربعاء ,05 كانون الأول / ديسمبر

تأجيل الاتفاق على الرقابة المصرفية لمنطقة اليورو

GMT 05:56 2012 الأربعاء ,05 كانون الأول / ديسمبر

وزير الداخلية الأردني: سنعالج ملف العمالة الوافدة كلها

GMT 08:55 2019 الأحد ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

فوائد الفحم للشعر وطريقة عمل قناع منه

GMT 00:39 2019 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

نتائج مثيرة لما بحث عنه مستخدمو الإنترنت على "غوغل" في 2019

GMT 10:01 2022 الأربعاء ,13 إبريل / نيسان

أفكار في الديكور للجلسات الخارجّية الشتويّة

GMT 15:28 2016 الخميس ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

برج الحصان..ذكي وشعبي ويملك شخصية بعيدة تماما عن الصبر

GMT 18:44 2019 الخميس ,18 تموز / يوليو

إتيكيت وضع المكياج في الأماكن العامة

GMT 19:26 2019 الإثنين ,15 إبريل / نيسان

المصائب تتوالى على سان جيرمان أمام ليل
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon