الجهاز العصبي العربي

الجهاز العصبي العربي

الجهاز العصبي العربي

 لبنان اليوم -

الجهاز العصبي العربي

بقلم:د. آمال موسى

تكمن وظيفة العقل في التفكر والتدبر والتعقل. بمعنى آخر؛ فإن العقل يتصرف وينظّم مواد يتسلمها من أجهزة أخرى تشتغل في منظومة الإنسان. ومن بين هذه الأجهزة نشير إلى الجهاز العصبي الذي له دور كبير في تحديد العقل، وضبط المحددات التي تؤطِّر عملية التفكير ذاتها.

في الظاهر نجد العقل، وفي الباطن يفعل الجهاز العصبي وفقاً لمحدداته وتراكماته وسرديته الخاصة فعله الخطير في العقل. وكما يكون الجهاز العصبي يكون العقل. وما ينطبق على الإنسان، ينطبق أيضاً على الفضاءات الثقافية والشعوب. لذلك ففي السياق الذي نروم تناوله نرى أنه من الأنسب الحديث عن الجهاز العصبي العربي الذي لا نعيره انتباهاً.

عندما نعاين ردود الأفعال والتفاعلات العربية على امتداد أكثر من ثلاثة عقود مضت بدءاً من حرب الخليج الأولى، ثم أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وغزو العراق، وصولاً إلى 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وتصفية حزام القوى الممانعة من رموز «حزب الله» و«حماس»، وإسقاط نظام بشار الأسد، وصولاً إلى أصل المعارك: الحرب الدائرة حالياً بين إيران وإسرائيل... وعلى امتداد كل هذه الأحداث الدموية، فإن الموقف الشعبي العربي يراوح في نفس المنطقة من التفاعل والشعورية: التصفيق للجهة التي نعتقد أنها تمثلنا وتنوب عنّا في الحرب، ثم ختامها خيبة وإحباط وتحديات جديدة لم يُحسب لها حساب.

المشكل أن الوجدان العربي في بُعده السياسي الحضاري فائض بمشاعر القهر والظلم والضعف، الأمر الذي جعل المبالغة في قراءة الأحداث والرغبة في التعويض النفسي والانتقام والتشفي، آليات تحكم الجهاز العصبي العربي الذي يتميز بهشاشة بالغة تتمظهر في التعلق بوهم الانتصار والقضاء على العدو.

المشكلة الكبرى أن الجهاز العصبي العربي معقَّد جداً ويختلط فيه الحق بالضعف، وردود الأفعال على الأحداث والشعور بالظلم التاريخي، ثم حين يسقط من نعتقد أنه ينوب عنّا في الحرب يظهر الضعف أكثر توغلاً من الضعف نفسه.

نكرر تعويلنا على نفس ملامح الجهاز العصبي لدى الشعوب والنخب العربية. وفي كل مرة يكون الوهم الواثق بالنصر، ثم يحدث السيناريو نفسه: السقوط المدوِّي ومعاودة الضعف. ويفيد مثل هذا التكرار أن العقل العربي لم يقم بما يلزم من نقد للجهاز العصبي الشعبي الذي يحكم جانباً وافراً من مواقفه، الأمر الذي جعله لا يراكم الخبرات ويظل يشتغل بالمحددات والميكانيزمات نفسها.

من المهم أن نفهم أن تكرار الانفعالات والتفاعلات والنتائج نفسها، يصبح بدوره مملاً جداً، وينتج نوعاً من التطبيع مع الضعف. وهنا لا بد من توضيح نقطة؛ أن النخب المفكرة التي تقود الرأي العام وتشكِّله قد زادت في طول أزمة الجهاز العصبي الشعبي العربي.

فالنخب لها موقفان متباعدان، بل متناقضان: شعوبنا تقودها نخب ذات موقفين راديكاليين؛ نخب تدعو إلى الواقعية الصارمة القاهرة التي لا تركز إلا على ما تملكه من قوة ومن ضعف، وبشكلٍ ميكانيكيٍّ قاسٍ لا يأخذ في الاعتبار طبيعة الإنسان والشعوب، ويطالب بالرضوخ للواقع مع تسويق ذلك بكونه الموضوعية والتعقل والواقعية والمقاومة الصريحة للوهم والكذب على الذات... في مقابل خطاب الواقعية القاهرة التي تتوقف عند حد تحديد ما لا تملك، وتصمت مع استنقاص ما تملك من عناصر قوة، نجد الموقف الذي يتجاهل الواقع ويُنكره، ويتشبث بالمبدأ والحق التاريخي، لاغياً من التقويم والاعتبار كل مظاهر الغلبة الحاصلة والمتوقَّعة. والشعوب، أو الجزء الوافر منها، تجد ضالتها في خطاب هذه النخب، لأنه خطاب يدغدغ الكوامن من أمجاد الماضي، ويسقي الحنين إلى تاريخٍ كان العرب فيه فاعلين في الحضارة وصانعين للأحداث ومؤثرين في بوصلة الاتجاه.

وحالياً ما نلاحظه هو التجاذب بين هذين الخطابين والموقفين في الحرب الإيرانية - الإسرائيلية: الواقعيون الصارمون يرون في التهليل لضربات إيران ضد إسرائيل مبالغة وسوء تقدير لموازين القوى، وأن العبرة بالنتائج باعتبار أن إسرائيل تمتلك النووي وتستند إلى القوة الأميركية التي لن تتركها تنهزم لأن إسرائيل تحارب من أجل مصلحتها وأمنها وأيضاً مصلحة الولايات المتحدة، وبناءً عليه فإن توقع انتصار إيراني والقضاء على إسرائيل وهم كبير سيخلِّف بدوره ضربة كبيرة للجميع هذه المرة. أما أصحاب الموقف الواثق بقدرات إيران فهم يرون أن تقاطع العداوة يستلزم مناصرة إيران والتهليل لكل ضربة توجع إسرائيل، مع التذكير بمعاناة أهل غزة، وأن إيران تنوب عنّا في إنزال العقاب اللازم بإسرائيل.

وكما نستنتج فإن الموقفين كليهما لا يخدمان توازن الجهاز العصبي والعقل العربيين: نحتاج إلى خطاب يعطينا حقنا، ويعترف لنا بحقوقنا، وينتصر لقضيتنا، وفي الوقت نفسه يُحرِّضنا على اكتساب القوة الاقتصادية التي بها نسترجع حقنا. بل إنه لا قوة تفكر في الاعتداء على حقك إذا كنت قوة ذات وزن في السوق العالمية.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الجهاز العصبي العربي الجهاز العصبي العربي



GMT 14:36 2025 الثلاثاء ,16 كانون الأول / ديسمبر

الفساد وصل إلى الجميد !

GMT 14:35 2025 الثلاثاء ,16 كانون الأول / ديسمبر

المدينة العمياء

GMT 14:34 2025 الثلاثاء ,16 كانون الأول / ديسمبر

«الزحلاوي» توم برّاك

GMT 14:33 2025 الثلاثاء ,16 كانون الأول / ديسمبر

من بونداي إلى تدمر... تحدي «داعش» العابر للحدود

GMT 14:32 2025 الثلاثاء ,16 كانون الأول / ديسمبر

استعادة لبنان بإنهاء هيمنة السلاح وإطلاق الإصلاح!

GMT 14:30 2025 الثلاثاء ,16 كانون الأول / ديسمبر

ها هو التاريخ أمامك يا جبران

GMT 14:27 2025 الثلاثاء ,16 كانون الأول / ديسمبر

نحو عام جديد... نرفعُ الأشرعة

GMT 14:26 2025 الثلاثاء ,16 كانون الأول / ديسمبر

استراتيجية الأمن القومي الأميركي الجديدة

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم
 لبنان اليوم - دراسة بريطانية تكشف علامات مبكرة للخرف عند الأشخاص فوق 55 عاما

GMT 14:02 2020 الثلاثاء ,20 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الثور الإثنين 26 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 12:36 2020 الثلاثاء ,02 حزيران / يونيو

تعيش ظروفاً جميلة وداعمة من الزملاء

GMT 15:06 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

يجعلك هذا اليوم أكثر قدرة على إتخاذ قرارات مادية مناسبة

GMT 03:58 2015 الأربعاء ,15 تموز / يوليو

مسقط وصلاله يصعدان للدوري العماني للمحترفين

GMT 21:36 2021 الأحد ,10 كانون الثاني / يناير

تنجح في عمل درسته جيداً وأخذ منك الكثير من الوقت

GMT 11:51 2022 الأربعاء ,15 حزيران / يونيو

حلف شمال الأطلسي يُعلن دعم كييف بأسلحة بعيدة المدى

GMT 23:31 2021 الثلاثاء ,16 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 12:53 2025 الثلاثاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

الملكة رانيا وسيدات العائلة الهاشمية يجسّدن الرقيّ الهادئ

GMT 09:58 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

إليسا تتبرع بفستانين لها في مزاد خيري لصالح مصر
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon