لبنان ومخاطر الإدارة المجتزأة

لبنان ومخاطر الإدارة المجتزأة

لبنان ومخاطر الإدارة المجتزأة

 لبنان اليوم -

لبنان ومخاطر الإدارة المجتزأة

بقلم:سام منسى

افتتاح «حزب الله» مجمعاً سكنياً مسوراً قرب الهرمل في البقاع الشمالي يضم 228 وحدة أسمنتية مع مرافق وخدمات قد يعدّه البعض تفصيلاً هامشياً قياساً بحجم المشكلات التي يعانيها لبنان، من الحرب مع إسرائيل إلى سلاح «حزب الله» وأموال المودعين الضائعة وغيرها. مجمع الهرمل لا يمكن قراءته بوصفه تفصيلاً اجتماعياً أو إنسانياً عابراً، بقدر ما هو فعل سياسي – أمني بامتياز.

أول ما يكشفه هذا الموضوع هو قصور مقاربة السلطة اللبنانية لمعضلة «حزب الله» بعامة، وتركيزها على جانب السلاح فقط دون الوعي الشامل لدوره الإشكالي في الحياة السياسية والأمنية والاجتماعية وأبعاده الإقليمية، بما يفرض عليها مواجهته بموقف سياسي صريح لا الاكتفاء بلوجستية احتواء السلاح أو حصريته.

فالحزب يتصرف كسلطة موازية: يخطط عمرانياً، يدير ما يصفه بالنزوح، ينظم الدخول والخروج ويؤمّن الكهرباء والمياه والأمن، من دون المرور بأي من القنوات القانونية والمؤسساتية من حكومة ووزارات مختصة وبلديات وأجهزة شرعية. هذا الواقع يفضح اختزال النقاش الدائر بين السلطة والحزب حول مفهوم «السيادة» مع حصره بالسلاح، بينما تُستبعد منه سيادة الدولة على الأرض والحدود وتنظيم المجتمع. فكما تحتكر الدولة السلاح، ينبغي أن تملك قرار الأرض والحدود وتنظيم المجتمع. الجدل حول ما إذا كانت الأرض ملكاً عاماً أم خاصاً، أو ما إذا كانت الدولة «استُشيرت»، يظل هامشياً أمام جوهر المشكلة وما تنطوي عليه من اختلالات مرشحة لتوليد أزمات ونزاعات لاحقة.

الأخطر فيما يجري أنه يتجاوز البعد الإسكاني ليشكل أداة لإعادة هندسة اجتماعية صامتة. فحين يُشيَّد مجمع سكني ملاصق لحدود حساسة ومتفلتة بقرار حزبي، ويقيم فيه مواطنون سوريون من معارضي النظام الجديد، لا كما يُروَّج عن كونه مأوى لسكان قرى لبنانية مهجرة، فإن ما يُفرض ليس حلاً إسكانياً ظرفياً، بل واقع سكاني وأمني منظم، مرتبط بشبكات تمويل وخدمات خارج الدولة، يجعل تفكيكه لاحقاً مكلفاً سياسياً وأمنياً، إن لم يكن شبه مستحيل. وعليه، تتحول أي محاولة لاحقة لاستعادة القرار السيادي ومعالجة هذه القنبلة الموقوتة مواجهةً اجتماعية مُسبقة التسييس، تُسوَّق على أنها استهداف لـ«طائفة» لا بوصفها تطبيقاً للقانون.

تتفاقم المخاطر مع تضارب الروايات بشأن الجهات الممولة، وسط معلومات عن تمويل عراقي يفتح الباب أمام تعقيدات أمنية وسياسية، لا سيما في ظل هشاشة ضبط الحدود الشرقية وحساسية العلاقة مع السلطة السورية الجديدة. في هذا السياق، يصبح تولي جهة حزبية تنظيم ما يوصف بالنزوح وتمويله وحراسته آلية لإعادة إنتاج أهداف غير معلنة، وإن كانت لا تنفصل عمّا يُتداول حول محاولات إعادة تمكين الحزب ومنظومته عبر اقتصاد سياسي موازٍ: خدمات مقابل ولاء، حماية مقابل صمت، وشرعية اجتماعية بديلاً عن الشرعية الدستورية.

يتقاطع النقاش حول المجمع مع مسار نزع سلاح الحزب جنوب الليطاني وغموض مصير هذا السلاح شماله. فقد أعلن رئيس الحكومة نواف سلام قرب استكمال نزع السلاح جنوب الليطاني، لكن السؤال الجوهري يبقى: ماذا يعني هذا «الإنجاز» إذا بقي السلاح شمال الليطاني خارج أي مسار زمني أو سياسي واضح؟ وكيف يمكن التعويل على جدية تطبيق مبدأ حصرية السلاح بيد الدولة والشروع بالمرحلة الثانية، في حين يواصل الحزب بالتوازي توسيع وظائفه شبه الدولتية، من بناء تجمعات سكنية مقفلة، إلى إدارة ما يُسمى نزوحاً، وصولاً إلى الإمساك بمفاصل اجتماعية وأمنية أساسية خارج أي رقابة أو مساءلة؟

في ضوء هذا التناقض بين الخطاب والممارسة، تتكشف مفارقة المفاوضات الجارية مع إسرائيل. فالتركيز ينحصر بضبط الجبهة الجنوبية وتأمين الحدود، بينما يُدار الداخل اللبناني وفق «الطريقة اللبنانية»، أي عبر تسويات مؤقتة تُرحل الأزمة بدلاً من معالجتها. تبدو هذه المفاوضات، في جوهرها، إدارة مجتزأة للنزاع مع إسرائيل و«حزب الله» معاً: ما يكفي لتهدئة الحدود، وما لا يكفي لقيام الدولة. لم يعد الاستقرار يعني قيام سلطة واحدة تحتكر القرار والسلاح والخدمات، بل بات يُختزل في غياب الانفجار. ومن هنا، يتجاوز النقاش «حزب الله» ليطول نموذج الحكم نفسه، حيث يجري الانتقال من دولة، ولو ضعيفة، إلى نظام سلطات متوازية تستمد شرعيتها من قدرتها على الإدارة لا من القانون. السلاح لم يعد جوهر المشكلة، بل السلطة التي تدير الاجتماع قبل أن تملك الأرض؛ ما يجعل أي مقاربة تركز على السلاح وحده معالجة للأعراض لا للمرض.

في الخلاصة، لا يمكن فصل مجمع الهرمل عن المسار التفاوضي الجاري ولا عن التركيز الدولي على الحدود الجنوبية مع إسرائيل بغية تأمينها وترك لبنان عالقاً بين سلطة فعلية ودولة شكلية، مقايضة واضحة: استقرار إقليمي مقابل تعليق الدولة اللبنانية. أما إذا كان الهدف قيام دولة، فالسؤال يصبح أكثر إحراجاً: هل يُسمح لهذه الدولة أن تمارس سيادتها كاملة، أم يُكتفى بإدارتها كمساحة أزمات مضبوطة مرشحة للانفجار؟ إلى أن يُحسم هذا السؤال، سيبقى لبنان أسير الدائرة المقفلة.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لبنان ومخاطر الإدارة المجتزأة لبنان ومخاطر الإدارة المجتزأة



GMT 17:48 2025 الإثنين ,29 كانون الأول / ديسمبر

المبالغة في التحذيرات “مثل قلتها”

GMT 17:48 2025 الإثنين ,29 كانون الأول / ديسمبر

حقّاً أهرام

GMT 17:47 2025 الإثنين ,29 كانون الأول / ديسمبر

أمامَ محكمة الرُّبعِ الأول

GMT 17:46 2025 الإثنين ,29 كانون الأول / ديسمبر

مِثال علاء عبد الفتاح

GMT 17:44 2025 الإثنين ,29 كانون الأول / ديسمبر

إسرائيل وشرعنة الكيانات الهلامية

GMT 17:43 2025 الإثنين ,29 كانون الأول / ديسمبر

التنافس لأعلى

GMT 17:42 2025 الإثنين ,29 كانون الأول / ديسمبر

فعلها النقيب النبراوى

GMT 17:41 2025 الإثنين ,29 كانون الأول / ديسمبر

انقسام المصريين

نادين نسيب نجيم تتألق بإطلالات لافتة في عام 2025

بيروت ـ لبنان اليوم

GMT 17:11 2025 الإثنين ,29 كانون الأول / ديسمبر

الحوثي يتوعد أي وجود إسرائيلي في أرض الصومال
 لبنان اليوم - الحوثي يتوعد أي وجود إسرائيلي في أرض الصومال

GMT 21:09 2021 الأحد ,10 كانون الثاني / يناير

يحالفك الحظ في الايام الأولى من الشهر

GMT 02:42 2020 الإثنين ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

تعرفي على طريقة تحضير حلى "الشوكولاتة الداكنة" بالقهوة

GMT 20:53 2022 الثلاثاء ,07 حزيران / يونيو

المسرح الوطني اللبناني يحتفي باليوم العربي للمسرح

GMT 08:43 2025 الأحد ,19 كانون الثاني / يناير

المغربي حكيم زياش يُطالب غلطة سراي بمستحقاته المالية

GMT 23:07 2019 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

البياوي يبدأ مهمته في القادسية

GMT 17:08 2019 الإثنين ,11 آذار/ مارس

ربيع سفياني يكشف أسباب تألقه مع التعاون

GMT 06:07 2021 الأربعاء ,03 آذار/ مارس

قطيع أغنام يغرق في نهر جليدي في الصين
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon