بقلم : أمينة خيري
فى المقال السابق، تساءلتُ عما يجمع بين العديد من التفاصيل «المعوجة» فى حياتنا اليومية، من سقوط لعمال من أعلى سقالات، إلى حوادث الاعتداء الجنسى فى المدارس، إلى قتل أنثى للشك فى سلوكها، إلى غرق سباح فى بطولة، إلى تاكسى أبيض الذى تحول إلى سيارات تجوب الشوارع بلا عداد أو ضابط أو رابط، إلى مشهد انتخابات مؤسف من ألفه إلى يائه، إلى إشغالات الأرصفة المزمنة رغم الحملات من حين لآخر، إلى تراكم مزمن لتلال قمامة فى كل مكان وأى مكان، إلى حوادث سير وفوضى عارمة فى القيادة، إلى انتشار الأطباء المعالجين وأدعياء التنمية البشرية على السوشيال ميديا ورواج سوقهم.. وغيرها..
بعد استبعاد عامل القضاء والقدر، وهو أمر غير قابل للنقاش، وكذلك الردود الدفاعية من قبيل «أطلقنا حملات» و«نفذنا عمليات» و«رفعنا قمامة الأسبوع الماضى» و«صادرنا» وغيرها.. أستبعد كذلك شماعة الأوضاع الاقتصادية الصعبة التى يلجأ إليها البعض لتبرير خروقات الطبقات البسيطة، من سائقى تكاتك، وعمال «دليفرى» وغيرهم، وهى الشماعة السخيفة البالية التى تتجاهل الخروقات التى يقترفها غير البسطاء من احتلال أرصفة، وسير عكسى، وعلاج المرضى عبر «تيك توك»، والترويج لمرشحين مشكوك فى قدرة بعضهم على إدارة سوبر ماركت لا إدارة شؤون دائرة نيابية.
أما حكاية «ضعف الوازع الدينى»، فأتمنى عدم خلط الأمور ببعضها، وكفانا ما نحن فيه من خلط يضع المطالب بتطبيق القوانين الوضعية أقرب ما يكون إلى الخارج عن الملة، المعادى للدين، الكاره للمتدينين.
أتحدث عن مجتمع مصرى أصيل، قاد المنطقة على مدار عقود فى العلم والتنوير والثقافة والتحضر والمدنية والفن والذوق الرفيع. أتحدث عن أفراد المجتمع الذين يسافرون إلى دول العالم شرقاً وغرباً، سواء كانوا عمالاً أو أطباء أو مهندسين أو محاسبين أو سائقين أو غيرهم، ولا يجرؤ أحدهم على كسر قانون هنا لأنه مضغوط اقتصادياً، أو خرق قاعدة هناك لأنه مسنود اجتماعياً. أتحدث عن قوانين يصعب – وربما يستحيل- تطبيقها، حتى لو توافرت الرغبة والإرادة والقدرة، طالما الوعى غائباً. أتحدث عن وعى لا يُبنى إلا بتكامل وتكاتف واستدامة تنشئة بيتية سليمة، وتعليم مدنى يتخذ من التربية عماداً له وينأى بنفسه عن الحفظ والتلقين والسنتر (ولنا فى المعلم إبراهيم وزة الذى لم يحدِّث طلاب السنتر عن الأخلاق، أو العمل أو الضمير أو النظافة أو العلم أو البحث، بل عن الشعر الظاهر من الطرحة وقصة الشعر الغريبة).. أتحدث عن التفكير النقدى واعتبار السؤال والتفكير خارج نطاق «آمين» قلة أدب وانعدام تهذيب..
أتحدث عن علم وفكر يمنحان صاحبهما ثقة لا تجعله يشعر أنه مهدد فى مجتمع أنعم الله عليه بالتعددية والاختلاف.. أتحدث عن تطبيق مستدام لقانون مدنى فى مجتمع واعٍ بأهمية وقيمة القانون، لا منشغل بكيفية كسر القانون أو التهرب منه، وتتساوى فى ذلك السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بالإضافة إلى الشعب.