فضيلة الاستقرار من التوحيد إلى الرؤية

فضيلة الاستقرار: من التوحيد إلى الرؤية

فضيلة الاستقرار: من التوحيد إلى الرؤية

 لبنان اليوم -

فضيلة الاستقرار من التوحيد إلى الرؤية

بقلم : يوسف الديني

مفهوم الهويَّةِ الوطنية ظلّ عبر التاريخ من أكثر المفاهيم تعقيداً وإثارة للنقاش لدى الفلاسفة وعلماء الاجتماع، إذ ارتبط بفكرة الجماعة المتخيّلة كما صاغها بنديكت أندرسون، وبالذاكرة الجمعية كما وصفها إرنست رينان، وبحاجة الأفراد إلى الاعتراف المتبادل كما أشار تشارلز تايلور. الهوية ليست مجرد رابطة بيولوجية أو تاريخية جامدة؛ بل مشروع سياسي واجتماعي وثقافي يُعاد إنتاجه باستمرار، وهي في الوقت نفسه، رواية كبرى أو «أسطورة مؤسسة» تمنح المواطنين معنى مشتركاً وهدفاً عاماً. وقد برهنتِ التجربة السعودية منذ نشأتها، على أن الهوية لا تُبنى على استدعاء ماضٍ بعيد أو شعارات عاطفية، بل على الاستجابة لحاجات واقعية وملموسة؛ وفي مقدمتها الاستقرار.

منذ أن دخل الملك عبد العزيز الرياض عام 1902، وبدأ مشروع التوحيد، تشكّلت الملامح الأولى للقصة المؤسسة السعودية؛ وهي قصة تقوم على إنهاء الفوضى القبلية وترسيخ الأمن وإيجاد قاعدة من الرخاء توحّد الناس. لم يكن التوحيد عملاً عسكرياً فحسب؛ بل كان تأسيساً لعقد اجتماعي جديد جعل من المملكة مشروعاً للاستقرار في منطقة مضطربة. وقد تجلّت في تلك اللحظة عناصر الهوية السعودية: أمن يُنهي الاحتراب، ورخاء يستثمر في الثروة، واستقرار يجعل من الدولة مظلة جامعة لكل المواطنين من دون تمييز. هذه السردية التي قامت على الواقعية السياسية والاجتماعية، تحوّلت إلى أساس شرعية مستمرة، وأصبحت الفارق بين السعودية وغيرها من الدول التي سعت إلى بناء هوياتها على رموز قديمة، أو أوهام آيديولوجية سرعان ما تهاوت. لقد حاولت بلدان عربية عدة أن تنسج لنفسها أساطير مؤسسة من الماضي، مستندة إلى عصور سحيقة، وهذا مشروع، لكن السعودية الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، لم تكتفِ بذلك؛ بل قامت بالبناء على لحظة التوحيد كخطاب جامع مستندة إلى الذاكرة القريبة والواقع المعاش، وبحاجة ملحة هي الأمن والتعايش، وهو ما جعلها أكثر رسوخاً وقابلية للاستمرار تجده الأجيال عبر حكايات أجدادهم وموروثهم الحاضر شفاهة وتوثيقاً.

ومع تطور تجربة الدولة في أطوارها الثلاثة، وسعيها رغم كل التحديات إلى ترسيخ مفهوم الاستقرار، نجد اليوم أنَّ هذا المفهوم «فضيلة الاستقرار»، لم يعد منحصراً على المستوى الداخلي، بل امتد إلى أدوار إقليمية جعلت المملكة عنصر توازن في محيطها. وكان أبرزها تجاوز شعارات الستينات المتعالية على الدولة القُطرية، ثم رعاية اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية عام 1989، ولاحقاً التصدي لغزو صدام للكويت عام 1990، إلى المبادرة العربية للسلام في بيروت عام 2002، كان الدور السعودي الإقليمي جزءاً من سرديتها المؤسسة لهويّتها، ذلك أنَّ استقرارها الداخلي يتكامل مع دورها الخارجي. هذه العلاقة بين الداخل والخارج رسّخت صورة المملكة كركيزة استقرار إقليمي لا غنى عنها.

القرن الجديد حمل معه تحديات مختلفة؛ أبرزها تحولات الاقتصاد العالمي وتقلبات أسعار النفط وصعود تيارات متطرفة غذّتها الأزمات الإقليمية. وهنا جاءت رؤية 2030 لتعيد إنتاج الهوية السعودية في أفق جديد في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، الحارس الأمين للذاكرة الوطنية في أدق تفاصيلها، وبسعي حثيث لا يتوقف من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي جسّد الرؤية قولاً وعملاً ودأباً، وهو ما رأيناه من التفاف جماهيري، خصوصاً من الأجيال الشابة، في أكثر من مناسبة.

لم تعد الهوية الوطنية مرتبطة فقط بذاكرة التوحيد المؤسسة؛ بل غدت اليوم مشروعاً مستقبلياً يستثمر في المواطن أولاً. المواطن السعودي محور الرؤية وحجر رحاها: يتعلم، ويبدع، ويشارك في الاقتصاد، ويمثل واجهة المملكة للعالم. إن الرؤية، بما تحمله من مشاريع للتحول الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، هي في جوهرها إعادة صياغة للقصة المؤسسة، بحيث تمنح الاستقرار بعداً مستداماً، وتحوّله من هدف دفاعي إلى استراتيجية هجومية نحو المستقبل.

إنَّ العمود الفقري لهذه الهوية الجديدة يقوم على ركيزتين: الأولى الاستقرار الإقليمي الذي أصبح علامة مميزة للمملكة من خلال سياساتها المتوازنة ومبادراتها السلمية، والثانية الاستخدام الرشيد للموارد الذي يربط الثروة بالنمو والإنتاج، لا بالريع والتبديد. وبين هذين البعدين يتجلَّى الفارق بين السعودية وغيرها من الدول الإقليمية التي بدَّدت مواردها في الحروب ودعم الميليشيات، بينما حوّلت المملكة ثروتها إلى أداة لبناء التماسك الاجتماعي وتعزيز قيمة العمل.

ولأنَّ الهوية لا تترسخ من دون مؤسسات، فإنَّ استدامة المشروع الوطني السعودي تتطلب تحويل الرؤية إلى ذاكرة مؤسسية: مناهج دراسية تُشبع الأجيال الجديدة بالقيم المشتركة، ومراكز أبحاث تؤطر النقاش وتوسع دائرة التفكير في الوطنية السعودية، وفضاءات ثقافية وفنية تجعل من الهوية مادة للإبداع، وإعلام مواكب يضعها في صدارة النقاش العام. إنَّ هذا التفعيل المؤسسي يحول الهوية إلى ممارسة يومية لا إلى مناسبة موسمية مجيدة، ونحن على موعد بعد أسابيع مع اليوم الوطني الخامس والتسعين.

إنَّ التجربة السعودية بهذا المعنى، تقدم للعالم العربي نموذجاً افتقده طويلاً ككيان عملاق بطموحه استطاع أن يحول الاستقرار إلى هوية، وأن يعيد إنتاجها لتواكب حاجات العصر. وإذا كان الشرق الأوسط ظلَّ بحاجة إلى سردية مؤسسة بعد إخفاق الآيديولوجيات والانقلابات العسكرية والمرجعيات القديمة، فإنَّ السعودية تقدّم هذه القصة عبر: الاستقرار، والتنمية، والمواطنة الفاعلة كمشروع مفتوح على المستقبل.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

فضيلة الاستقرار من التوحيد إلى الرؤية فضيلة الاستقرار من التوحيد إلى الرؤية



GMT 17:17 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

ميلاد مجيد محاصر بالتطرف

GMT 17:16 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

حكومة العالم

GMT 17:15 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

هل انتهى السلام وحان عصر الحرب؟!

GMT 17:15 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

لماذا أثارت المبادرة السودانية الجدل؟

GMT 17:13 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

مقتل الديموغرافيا

GMT 17:12 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

مبدأ أثير لدى ساكن البيت الأبيض

GMT 17:11 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

ماذا تبقى من ذكرى الاستقلال في ليبيا؟

GMT 17:10 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

الظاهرة الأصولية وحالة «التأقلم الماكر»

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 17:52 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

دواء جديد يوقف تطور مرض ألزهايمر في مراحله المبكرة
 لبنان اليوم - دواء جديد يوقف تطور مرض ألزهايمر في مراحله المبكرة

GMT 12:50 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الثور الأحد 1 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 11:49 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

من المستحسن أن تحرص على تنفيذ مخطّطاتك

GMT 22:30 2021 الأحد ,10 كانون الثاني / يناير

يشير هذا اليوم إلى بعض الفرص المهنية الآتية إليك

GMT 22:08 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج القوس الأحد 1 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 12:17 2020 الثلاثاء ,02 حزيران / يونيو

كن قوي العزيمة ولا تضعف أمام المغريات

GMT 13:08 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج السرطان الأحد 1 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 21:05 2021 الأحد ,10 كانون الثاني / يناير

تطرأ مسؤوليات ملحّة ومهمّة تسلّط الأضواء على مهارتك

GMT 05:03 2022 الأربعاء ,06 تموز / يوليو

أفكار بسيطة في الديكور لجلسات خارجية جذّابة

GMT 19:23 2021 الجمعة ,16 تموز / يوليو

حريق كبير في بينو العكارية اللبنانية

GMT 13:08 2019 الإثنين ,04 شباط / فبراير

أمير منطقة الرياض يرأس جلسة مجلس المنطقة

GMT 02:47 2020 الإثنين ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

تعرفي على طريقة إعداد وتحضير حلى التوفي البارد

GMT 11:29 2012 الإثنين ,10 كانون الأول / ديسمبر

ضرائب متراكمة على النجمة باميلا أندرسون

GMT 13:54 2018 الخميس ,20 كانون الأول / ديسمبر

المحرق ينظم مهرجانه الخامس عشر بمناسبة الأعياد
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon