من «الرؤية» إلى هندسة الشراكات

من «الرؤية» إلى هندسة الشراكات

من «الرؤية» إلى هندسة الشراكات

 لبنان اليوم -

من «الرؤية» إلى هندسة الشراكات

بقلم : يوسف الديني

في فبراير (شباط) 1945، كان المشهد على ضفاف قناة السويس يتجاوز بكثير مجرد اجتماع سياسي عابر. فرنكلين روزفلت، العائد من مؤتمر يالطا والمنهَك صحياً، أصرّ رغم حالته الصحية على لقاء الملك عبد العزيز، طيّب الله ثراه، في البحيرات المُرّة. لم يكن يدرك أنه يؤسس لتقليد سياسي سيمتد لثمانية عقود، يصبح فيه كل رئيس أميركي؛ من ترومان إلى نيكسون، ومن ريغان إلى بوش، حتى باراك أوباما ودونالد ترمب، معنياً ببناء علاقة خاصة مع السعودية وقادتها. لم يكن الأمر شغفاً شخصياً بقدر ما كان فهماً مبكراً لطبيعة المملكة: دولة ليست عادية، بل مركز ثقل ديني وسياسي وجغرافي، والشراكة معها هي بحكم الأمر الواقع شراكة مع قلب العالمين الإسلامي والعربي ومع الدولة الأكثر استقراراً في منطقة مضطربة ومتقلبة.

لم تكن علاقة واشنطن بالرياض مجرد تقاطع مصالح بين قوة عظمى خرجت منتصرة من الحرب العالمية الثانية ودولة فتيَّة تُعيد بناء شبه الجزيرة العربية، بل كانت إدراكاً استراتيجياً لما تصفه نظريات العلاقات الدولية بـ«الشرعية الاستثنائية» أو «شرعية الدور والمكانة». ذلك المزيج من الرمزية الدينية، والموقع الجيوسياسي، والموارد الحيوية، والوزن السياسي الذي لا بديل عنه. ومنذ تلك اللحظة المبكرة، أصبحت السعودية جزءاً ثابتاً في حسابات الأمن القومي الأميركي، بغضِّ النظر عن الحزب أو الرئيس الذي يدخل البيت الأبيض.

ورغم تغيّر الإدارات وتعاقب الآيديولوجيات، بقي ثابتٌ مركزيٌّ يحكم العلاقة: الولايات المتحدة تحتاج إلى السعودية بقدر ما تحتاج السعودية إلى الولايات المتحدة، غير أن طبيعة هذا التوازن تطورت عبر الزمن، ودخلت مرحلة جديدة مع إطلاق «رؤية 2030» في عهد الملك سلمان بن عبد العزيز، والعمل الدؤوب الذي قاده مهندس الرؤية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. هذه الرؤية أعادت الحيوية إلى الدولة، وأطلقت طاقة الجيل الجديد من الشباب والفتيات الذي بات يرى في مشروع بلده مستقبله الخاص، وفي ولي العهد نموذجه أو بتعبيرهم: «شايفينك حلمنا».

السعودية المتجددة لم تعد تنظر إلى واشنطن بوصفها مركز الثقل الأوحد في النظام الدولي، بل بوصفها أهم القوى الكبرى التي يمكن إقامة شراكات متعددة معها في إطار سياسة «إعادة التموضع» التي تنتهجها دولة صاعدة وفاعلة في محيطها، تعيد تشكيل التوازنات الإقليمية بقوة ووضوح. وحين يستقبل ترمب ولي العهد اليوم في واشنطن بحفاوة استثنائية، بطائرات تحلّق ومدفعية تُطلق، فهو يستعيد إرث روزفلت نفسه وإنْ في سياق عالمي مختلف تماماً. فمنذ عهد الملك المؤسس، كانت السعودية صاحبة وزن راسخ في محيطها العربي والإسلامي، لكن المملكة التي تراها واشنطن اليوم هي ثمرة عقود من البناء والتراكم؛ دولة انتقلت من مرحلة التأسيس والوحدة إلى مرحلة المشاريع الكبرى التي تعيد صياغة الاقتصاد والمجتمع والدور الإقليمي.

السعودية الجديدة تمتلك مشروعاً اقتصادياً ضخماً، وتعيد تشكيل اقتصادها جذرياً بعيداً عن الاعتماد الأحادي على النفط، وتتبنى سياسة خارجية متوازنة مع الصين وروسيا والولايات المتحدة، وتستثمر في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والقدرات البشرية. ولهذا تبدو علاقتها مع واشنطن اليوم أكثر عمقاً وتعقيداً: شراكة بين دولتين مستقلتين طرأ عليهما خلال العقد الماضي الكثير من التحولات. وقد عبّر ولي العهد عن هذا التغير بوضوح حين قال إن الاستثمارات السعودية تُدار بمنطق «السعودية أولاً»، أي وفق المصلحة الوطنية الخالصة، حيث تتعامل الرياض مع واشنطن بمنطق واضح: شراكة متوازنة تقوم على المصالح المشتركة لا على صور نمطية أو توقعات قديمة. فقد أصبحت السعودية اليوم أكثر قدرة على صياغة خياراتها، وأكثر ثقة في استقلالية قرارها، وهو ما يفسر تفاوضها من موقع قوة، وحرصها على أن تكون أي اتفاقات دفاعية أو اقتصادية منسجمة مع مصالحها الوطنية ورؤيتها للمستقبل.

ومن زاوية نظريات العلاقات الدولية، يتجسد التحول السعودي في إطار ما تُعرف بـ«نظرية القوة الصاعدة» أو انتقال القوة، وهي اللحظة التي تتحول فيها الدولة من متأثر بتوازنات القوى الدولية إلى فاعل مستقل قادر على التأثير فيها. الرياض اليوم قوة صاعدة بالمعنى الكامل، تمتلك مشروعاً محلياً وإقليمياً ودولياً، وتتعامل مع القوى العظمى من موقع الندِّية.

في الجانب الدفاعي، تظهر ملامح هذا التحول بوضوح. فالمملكة تسعى إلى اتفاق دفاعي «مُصدّق» من مجلس الشيوخ يشبه المادة الخامسة في حلف الناتو، وهو مستوى من الالتزامات لم تمنحه واشنطن إلا لدول قليلة في التاريخ الحديث. هذا المسعى يعكس وعي السعودية بأن العالم تغيّر، وأن منظومة الأمن التقليدية لم تعد كافية، وأن الحماية الفعلية تحتاج إلى ضمانات ملزمة. ومع ذلك، تدرك واشنطن أن السعودية شريك استراتيجي مهم. اتفاق دفاعي بهذا الحجم يجب أن يُصاغ بعناية ليعكس متغيرات المنطقة ويضمن استدامة الشراكة الاستراتيجية.

ومن هنا، يصبح السؤال الأساسي في استشراف مستقبل العلاقة، ليس: ماذا ستقدم السعودية لواشنطن؟ بل: كيف ستعيد واشنطن تحديد دورها في شرق أوسط جديد تتصدره قوى إقليمية صاعدة عاصمتها الرياض؟

ما يجري اليوم هو لحظة إعادة تعريف لعلاقة امتدت لثمانية عقود، وتؤكد أن اهتمام الرؤساء الأميركيين بالسعودية منذ لقاء روزفلت، لم يكن مجرد بروتوكول، بل إدراك عميق بأن استقرار الشرق الأوسط لا يمكن أن يتحقق من دون السعودية «الشريك الذي لا غنى عنه».

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

من «الرؤية» إلى هندسة الشراكات من «الرؤية» إلى هندسة الشراكات



GMT 21:26 2025 الأربعاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

شفافية في المعلومات والأرقام يا حكومة

GMT 21:25 2025 الأربعاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

معلقات اليمن

GMT 21:24 2025 الأربعاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

العصا الرقمية... والهشّ على الغنم

GMT 21:23 2025 الأربعاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

في عشق السلاح...

GMT 21:22 2025 الأربعاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا المتحدة... وليبيا المُنقسِمة

GMT 21:21 2025 الأربعاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

في ذكرى استقلال ليبيا... ماذا أبقيتم للأجيال المقبلة؟

GMT 21:20 2025 الأربعاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

قوات الاستقرار في غزة

GMT 21:19 2025 الأربعاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

بيت لحم... أفراح القلوب المكسورة

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 18:23 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

كيا سبورتاج 2026 تحصد لقب "أفضل اختيار للسلامة بلاس" لعام 2025

GMT 00:03 2021 الأربعاء ,17 شباط / فبراير

أجواء إيجابية لطرح مشاريع تطوير قدراتك العملية

GMT 18:04 2023 الأربعاء ,13 كانون الأول / ديسمبر

اتيكيت مقابلة أهل العريس

GMT 19:07 2016 الثلاثاء ,26 كانون الثاني / يناير

عبير صبري تؤكد إلى أحمد مالك الأخلاق مش بتنفصل عن الفن

GMT 05:24 2013 الإثنين ,20 أيار / مايو

الجماعات الإسلامية" تشن حملة لتشوية الإعلام"

GMT 12:06 2023 الأربعاء ,20 كانون الأول / ديسمبر

فيلم «شماريخ» يتصدر شباك التذاكر بـ14 مليوناً و521 ألف جنيه

GMT 12:12 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمم المتحدة وواشنطن تدعمان عائلات متضرري انفجار مرفأ بيروت

GMT 15:19 2020 الخميس ,29 تشرين الأول / أكتوبر

تفاصيل فريدة ومميزة في مجموعة «كروز 2021»

GMT 15:37 2016 الخميس ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

برج القرد..ذكي واجتماعي ويملك حس النكتة

GMT 00:19 2021 الإثنين ,18 كانون الثاني / يناير

فوائد حب الرشاد للشعر وطرق تحضير خلطات منه

GMT 18:56 2022 الإثنين ,03 كانون الثاني / يناير

متزلجو لبنان يستعدون لأولمبياد الصين الشتوي

GMT 06:49 2017 الجمعة ,13 كانون الثاني / يناير

تعرف علي توقعات درجات الحرارة المتوقعة في مصر الخميس
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon