حضرموت ومنطق الدولة

حضرموت ومنطق الدولة

حضرموت ومنطق الدولة

 لبنان اليوم -

حضرموت ومنطق الدولة

بقلم : يوسف الديني

لم تكن خطوةُ المجلسِ الانتقالي الجنوبي في وادي حضرموت مجردَ محاولةٍ «تقدّم ميداني» كما حاولت بعضُ خطاباته تبريرَها؛ بل كانت خطوة اعتباطية خطيرة. فقد اختارت قيادةُ «الانتقالي» أن تتحرَّكَ عكسَ اتجاه اللحظة الإقليمية، وأن تتجاهلَ الطبيعة الحساسة لحضرموت، ساعية إلى فرض واقع بالقوة على محافظة لم تكن يوماً جزءاً من مشروع أحادي، ولا تقبل بطبيعتها أن تُختزل داخل فصيل واحد.

في مشهد أعاد إلى الأذهان لحظة قفز الحوثيين على الدولة في صنعاء عام 2014، وظّف «الانتقالي» خطاباً تعبوياً وحشداً مناطقياً لفرض أمر واقع على وادٍ لم يكن يوماً ساحة رخوة أو فراغاً سياسياً. وبينما كان الإقليم يتجه نحو تثبيت الأمن وإعادة هندسة العلاقة بين القوى المحلية والفاعلين الكبار، اختار «الانتقالي» السير في الاتجاه المعاكس: خطوة مرتجلة، ومخالفة لمنطق الدولة، وتفتح الباب أمام أخطر سيناريو في جنوب اليمن، وهو إعادة إنتاج نموذج الميليشيا التي تبتلع الجغرافيا ثم تختطف القرار المحلي.

القراءة السطحية للمشهد تفترض أن حضرموت «مساحة يمكن السيطرة عليها إذا توفّر السلاح»، لكن هذه قراءة تختزل الواقع اختزالاً مخلاً، فحضرموت ليست مجرد وادٍ أو هضبة نفطية، بل نظام اجتماعي-قبلي عريق، يحمل حساسية تاريخية عالية تجاه أي سلطة قسرية آتية من الخارج، شمالية كانت أو جنوبية. ولهذا السبب تحديداً فشلت، عبر عقود، كل محاولات الإخضاع التي اعتمدت على القوة لا على الشرعية والقبول الاجتماعي.

ما تجاهله «الانتقالي» أن حضرموت، ولا سيما الوادي، ليست جزءاً من «المركزية الجنوبية» التي يسعى إلى فرضها؛ فهي كيان اجتماعي وسياسي مستقل في المزاج والهوية والتطلعات. وكل محاولة لجرّها إلى مشروع أحادي تتحول تلقائياً إلى اشتباك مع الذاكرة الحضرمية التي خبرت الهيمنة القادمة من عدن وصنعاء على السواء، وتعلم بالتجربة أن السلطة المنتزعة بالقوة لا تصنع استقراراً ولا تبني دولة.

بهذا المعنى، وقع «الانتقالي» في الخطأ ذاته الذي ارتكبه الحوثي حين ظن أن القوة وحدها قادرة على صناعة شرعية. غير أن حضرموت تمتلك اليوم من تماسك البنية القبلية، ومن الارتباط الاستراتيجي بالمملكة العربية السعودية، ما يجعل استنساخ النموذج الشمالي أمراً شبه مستحيل. فالوادي ليس فراغاً، بل مجتمع كامل الأركان، يعرف تركيبته، ويحمي مصالحه، ويرفض أن يكون تابعاً لمشروع لم يشارك في صياغته.

لفهم عمق الأزمة، لا بد من التذكير بالخصوصية التاريخية لحضرموت، فمنذ ما قبل الوحدة اليمنية تميّزت المحافظة بإدارة شبه مستقلة وبيئة اجتماعية شديدة الحساسية تجاه النفوذ القادم من المراكز السياسية الكبرى. وبعد الوحدة عام 1990، ورغم الاندماج في الدولة الجديدة، حافظت حضرموت على قدر من التمايز، ولم تُحكم يوماً عبر سلطة أحادية مستقرة من عدن أو صنعاء. ومع تعمّق المركزية بعد حرب 1994، ازداد شعورها بالتهميش، خصوصاً في ظل غياب مشاريع تنموية عادلة وتمثيل سياسي متوازن.

ثم جاءت حرب 2015 لتعيد رسم المشهد جذرياً، ففي الساحل برزت قوات النخبة، وفي الوادي ظل النفوذ موزعاً بين المنطقة العسكرية الأولى والتحالف القبلي بقيادة عمرو بن حبريش، الذي مثّل، لسنوات، رمزاً للتوازن الاجتماعي لا بسبب قوته العسكرية، بل بسبب عمقه التمثيلي داخل المجتمع الحضرمي. ومع الوقت، بات الوادي أكثر مناطق الجنوب حساسية، لكونه شريان النفط، وممر التجارة، ونقطة تماسّ مباشرة مع المملكة.

في هذه اللحظة الإقليمية الدقيقة، جاء تحرك «الانتقالي» نحو سيئون والهضبة النفطية قبل القمة الخليجية بأيام قليلة، في توقيت خاطئ ورسالة خاطئة. كان يُفترض بالقوى المحلية أن تدرك أن الإقليم يعيد تعريف أولوياته الأمنية، وأن السعودية تتحرك لتثبيت توازن جديد يمنع تكرار الفشل في دول أخرى. لكن «الانتقالي» أخطأ في ما قام به في حضرموت.

مقاربة «الانتقالي» لم تكن خطأً تكتيكياً فحسب، بل سوء قراءة لبنية القوة في الإقليم ولموقع السعودية فيه. فحضرموت ليست ساحة لاختبار النفوذ، بل صمام أمان اقتصادي وأمني، ومن يمسّ استقرارها يلامس مباشرة منظومة الأمن الخليجي بأكملها.

الأخطر في هذا المسار أنه يعيد إنتاج منطق «الميليشيا الموازية للدولة»، أي بناء قوة مسلحة خارج الإطار المؤسسي ثم محاولة شرعنتها عبر السيطرة على الجغرافيا. هذا المنطق لا يهدد حضرموت وحدها، بل يفتح الجنوب على صراعات مناطقية، ويقوّض شرعية الدولة، ويخلق فراغات أمنية قابلة للاختراق من الجماعات المتطرفة، ويضعف الجبهة المناهضة للحوثي في لحظة كان يفترض أن تتجه فيها القوى اليمنية نحو توحيد الصف.

في خضم هذا الاضطراب، برز الدور السعودي بوصفه عامل التوازن الوحيد الذي حال دون انزلاق حضرموت إلى حرب جنوب-جنوبية واسعة؛ فقد تعاملت المملكة مع الأزمة بمنهج مسؤول، ركّز على احتواء التصعيد، وحماية المنشآت النفطية، ومنع الانهيار الأمني، ونجحت في فرض تهدئة مبكرة وإعادة ترتيب المشهد دون الانجرار إلى دعم مشروع فصائلي، انطلاقاً من إدراكها أن استقرار حضرموت ليس تفصيلاً محلياً، بل ركيزة أساسية لأمن اليمن والمنطقة.

تكشف أزمة حضرموت درساً واضحاً: لا يمكن القفز فوق الجغرافيا ولا فوق منطق الدولة، ولا يمكن لليمن أن يُدار بفصيل واحد أو مشروع أحادي. الشرعية الحقيقية تُبنى بالتوافق، لا بالسلاح، والاستقرار لا يُصنع بالمغامرة. ومن هنا، فإن النهج السعودي القائم على دعم الدولة، ومنع منطق الميليشيات، وتثبيت التوازن، يقدّم النموذج الأكثر واقعية لأي مقاربة جادة للخروج من الأزمة اليمنية، ويمنح اليمنيين فرصة لتفادي إعادة إنتاج الكارثة التي بدأت في الشمال وكادت تُستنسخ في الجنوب.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حضرموت ومنطق الدولة حضرموت ومنطق الدولة



GMT 22:28 2025 الإثنين ,15 كانون الأول / ديسمبر

التسامح والمحبة و”سجدة الفاخوري”

GMT 22:27 2025 الإثنين ,15 كانون الأول / ديسمبر

الامتحان الحقيقي في سوريا...

GMT 21:35 2025 الإثنين ,15 كانون الأول / ديسمبر

قصة مملّة ورواية باهتة

GMT 21:34 2025 الإثنين ,15 كانون الأول / ديسمبر

إرهاب سيدني وتدمر... «عادْ نِحنا إلّا بِدينا»

GMT 21:33 2025 الإثنين ,15 كانون الأول / ديسمبر

التطرف وباء «القرية الكونية»

GMT 21:32 2025 الإثنين ,15 كانون الأول / ديسمبر

واشنطن... تحدي هندسة التنازع الإقليمي

GMT 21:31 2025 الإثنين ,15 كانون الأول / ديسمبر

وداع «الست» على موسيقى «ألف ليلة»

GMT 21:30 2025 الإثنين ,15 كانون الأول / ديسمبر

تسويات «إلا حتة»

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 21:47 2025 الإثنين ,15 كانون الأول / ديسمبر

مسلحون يهاجمون مواقع الأمن العام بالهاون في السويداء
 لبنان اليوم - مسلحون يهاجمون مواقع الأمن العام بالهاون في السويداء

GMT 22:12 2025 الإثنين ,15 كانون الأول / ديسمبر

اكتشاف علامة مبكرة لتطور مرض السكري من النوع الأول
 لبنان اليوم - اكتشاف علامة مبكرة لتطور مرض السكري من النوع الأول

GMT 22:14 2025 الإثنين ,15 كانون الأول / ديسمبر

إيفانكا ترامب تعلق على هجوم أستراليا
 لبنان اليوم - إيفانكا ترامب تعلق على هجوم أستراليا

GMT 00:46 2016 الخميس ,25 آب / أغسطس

وصفة طبيعية لتحصلي على أكواع بيضاء

GMT 22:53 2017 الجمعة ,21 تموز / يوليو

الشهري يستقيل من تدريب فريق النهضة السعودي

GMT 22:47 2019 الأحد ,19 أيار / مايو

جورج قرداحى يسلم جائزة "اسم من مصر" للفائز

GMT 07:07 2013 الجمعة ,23 آب / أغسطس

كارول سماحة تنتهي من تصوير "وحشاني بلدي"

GMT 15:56 2022 السبت ,22 كانون الثاني / يناير

الموضة الرائجة للبلوزات خلال موسم ربيع وصيف 2022

GMT 10:56 2020 الثلاثاء ,22 كانون الأول / ديسمبر

وزير مصري سابق يؤكّد أنّ أعراض "كورونا" تختلف بحسب الطقس

GMT 10:35 2015 الثلاثاء ,29 أيلول / سبتمبر

مقتل شخصين وإصابة 300 في إعصار عنيف ضرب تايوان

GMT 21:46 2022 الجمعة ,07 كانون الثاني / يناير

مايا دياب تكشف عن تعرضها للتحرش الجنسي في إحدى حفلاتها

GMT 12:12 2017 الثلاثاء ,04 إبريل / نيسان

جرائم زنى المحارم صداع في رأس المجتمع التونسي
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon