التجميد الاستراتيجي إدارة التنافس بين أميركا والصين

التجميد الاستراتيجي: إدارة التنافس بين أميركا والصين

التجميد الاستراتيجي: إدارة التنافس بين أميركا والصين

 لبنان اليوم -

التجميد الاستراتيجي إدارة التنافس بين أميركا والصين

بقلم : يوسف الديني

تُعد السعودية اليوم رقماً صعباً في معادلة التوازن العالمي بما تمتلكه من ثقل اقتصادي وثقافي وموقع جيوسياسي فريد

يشهد النظام الدولي تحوّلاً عميقاً في طبيعة الصراعات الكبرى؛ من المواجهات المباشرة إلى ما يمكن وصفه بـ«إدارة التوتر». فالمعادلة القديمة التي كانت تقوم على الردع الصارم أو الحرب الشاملة، لم تعد قابلة للتطبيق في بيئة مترابطة اقتصادياً وتكنولوجياً بهذا التعقيد. لم يعد الصراع بين الولايات المتحدة والصين مجرد منافسة بين قوتين عظميين على النفوذ؛ بل أصبح اختباراً لقدرة النظام الدولي على التكيّف مع تعددية جديدة تفرض التوازن بدل الإقصاء، وإدارة المخاطر بدل الحسم. في هذا السياق تتقدّم فكرة تجميد التصعيد بوصفها إطاراً واقعياً لعصر لا يحتمل الحرب ولا يستطيع تحقيق السلام الكامل.

انطلاقاً من هذا الإدراك، يمكن قراءة ورقة مؤسسة «راند» (RAND Corporation) التي تُعدّ من أبرز مراكز التفكير الاستراتيجي في العالم، وغالباً ما تُوصف بأنها «العقل التحليلي» للولايات المتحدة لقربها من دوائر القرار الدفاعية. لا تقدم الورقة تصوراً لإنهاء التنافس بين واشنطن وبكين بقدر ما تطرح مقاربة لإدارته وضبطه ضمن حدود مقبولة، عبر بناء قواعد تمنع الانزلاق إلى مواجهة شاملة. وهي بذلك أقرب إلى خطة استقرار مؤقتة تهدف إلى التحكّم في التوتر لا نفيه، وإبقاء التنافس قابلاً للإدارة ضمن أطر مؤسساتية وآليات اتصال مفتوحة.

الورقة تقترح حزمة من المسارات العملية التي تشكّل، مجتمعة، خريطة طريق لتثبيت الاستقرار داخل التنافس القائم. فهي تدعو واشنطن إلى توضيح أهدافها بلغة سياسية تتخلى عن فكرة النصر المطلق وتقرّ بشرعية النظام الصيني، وإلى إعادة بناء قنوات الاتصال العليا بين القيادتين السياسية والعسكرية لتجنّب سوء الفهم في الأزمات. كما توصي بتحسين آليات إدارة الأزمات من خلال تطوير قواعد التعامل الميداني في المناطق الحساسة؛ مثل تايوان وبحر الصين الجنوبي، والحدّ من المنافسة السيبرانية عبر تفاهمات ثنائية تمنع استهداف البنى التحتية المدنية. وتؤكد الورقة أهمية الاعتراف المتبادل بمبدأ الردع النووي وعدم تطوير قدرات أو عقائد تهدد التوازن الاستراتيجي، مع الانخراط في تعاون انتقائي في القضايا الإنسانية والعالمية المشتركة؛ مثل الأوبئة والمناخ والمساعدات الدولية لبناء حد أدنى من الثقة المتبادلة.

هذه التوصيات لا تهدف إلى بناء شراكة، بل إلى خلق استقرار مرحلي يسمح بإدارة التنافس تحت سقف محدد زمنياً وسياسياً. فالتجميد الاستراتيجي هو في جوهره محاولة لإطالة أمد التوازن وتأجيل الانفجار، وليس لتأسيس نظام جديد. واشنطن، من جانبها، تتعامل مع هذا التوجه بوصفه ضرورة مالية وعسكرية؛ إذ إنهاك الحروب الطويلة، وارتفاع كلفة الردع، والانقسام الداخلي كلها عوامل تدفعها نحو سياسة الاقتصاد في القوة، أي تحقيق الردع بأدنى كلفة ممكنة من خلال التحالفات المرنة والعقوبات الاقتصادية والتفوق التكنولوجي بدل الانتشار الميداني المكلف.

أما الصين، فتتعامل مع هذا التجميد بوصفه نافذة زمنية ثمينة لكسب الوقت وتوسيع النفوذ بوسائل غير صدامية. فهي تدرك أن واشنطن لم تعد راغبة في خوض سباق استنزاف جديد، ولذلك تستثمر هذه المرحلة فيما يمكن تسميته «التوسع الهادئ»، عبر تعميق مبادرة «الحزام والطريق»، وتعزيز حضورها في أفريقيا وأميركا اللاتينية، وتوسيع مشاركتها في المؤسسات متعددة الأطراف من دون تجاوز السقف الذي قد يستفزّ الولايات المتحدة.

من الناحية النظرية، ينتمي هذا الاتجاه إلى ما يمكن تسميته «الواقعية المرنة»، أي السعي إلى إدارة التوازن لا تغييره بالقوة. فحين تقترب القوى الكبرى من نقطة التكافؤ، تميل إلى تجميد النزاع للحفاظ على النظام الدولي الذي تستفيد منه جميع الأطراف. التجميد في الحالة الأميركية - الصينية هو نسخة محدثة من «الردع عبر الإدراك المتبادل» الذي ساد في الحرب الباردة، لكن في بيئة متداخلة اقتصادياً تجعل الحرب غير ممكنة والمنافسة غير قابلة للانقطاع.

يعبّر هذا التحول أيضاً عن نمط جديد من الردع المنخفض الكلفة، حيث تستبدل واشنطن أدوات القوة التقليدية بتفوقها التكنولوجي والمالي. فالتحكم في سلاسل الإمداد، واحتكار التقنيات المتقدمة، واستخدام النظام المالي العالمي كأداة ضغط، أصبحت أدوات الردع الأحدث في الاستراتيجية الأميركية. وهي أدوات تُبطئ صعود الصين من دون مواجهة مباشرة، وتُجنّب الولايات المتحدة المخاطر المالية والسياسية لأي تصعيد قد يزعزع الأسواق أو يُضعف تحالفاتها، ويمنح منافسين مثل روسيا والهند هامش حركة أكبر.

بهذا المعنى، فإنّ التجميد الاستراتيجي ليس انسحاباً بل إعادة ترتيب للأولويات. إنه وسيلة لإدارة الزمن الاستراتيجي، وتقليل النفقات، وإعادة بناء القوة الأميركية داخلياً من دون خسارة موقع القيادة في النظام الدولي. في المقابل، يُعد بالنسبة لبكين مرحلة ترسيخ وتثبيت للنفوذ قبل الانتقال إلى مستوى أعلى من القوة، إذ تراهن الصين على أن الزمن يعمل لصالحها في نهاية المطاف.

وإذا استمر هذا الاتجاه، فقد تتشكل بيئة دولية أكثر توازناً وأقل آيديولوجية، تُدار فيها المصالح عبر شبكات تعاون مرنة لا تحالفات مغلقة. وستبرز مجموعة من القوى الصاعدة - وفي مقدمتها السعودية إلى جانب الهند وتركيا والاتحاد الأوروبي ودول الخليج - بوصفها ركائز لإعادة تشكيل النظام الدولي المقبل. وتُعد السعودية اليوم رقماً صعباً في معادلة التوازن العالمي، بما تمتلكه من ثقل اقتصادي وثقافي وموقع جيوسياسي فريد يجعلها قادرة على الحفاظ على علاقات متوازنة مع القوتين العظميين. فهي لا تُختزل في محور نفوذ؛ بل تُقدَّم بوصفها فاعلاً توازنياً رئيسياً، يوظف أدواته السياسية والاقتصادية والدبلوماسية لتعزيز الاستقرار الإقليمي وحماية مصالحه الوطنية، مع الإسهام في بناء نظام عالمي أكثر واقعية وتعددية. ويمثل صعود السعودية بهذا المعنى أحد أبرز ملامح التحول في الشرق الأوسط، حيث تتحول المنطقة من كونها ساحة تنافس إلى فضاء لإنتاج التوازن.

في المحصلة، أصبح تجميد التصعيد أداة لإطالة عمر النظام الدولي القائم لا لإصلاحه أو استبداله. فالولايات المتحدة تحاول البقاء في مركز اللعبة الدولية من دون الدخول في حرب لا يمكن كسبها، بينما ترى الصين أن التوازن المؤقت يتيح لها استكمال صعودها بهدوء. وبين الطرفين، يتشكل عالم جديد لا تسوده الحرب ولا يكتمل فيه السلام، بل يُدار باستقرار حذر يقوم على إدراك متبادل بأن الانفجار لم يعد خياراً ممكناً لأيٍّ منهما.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

التجميد الاستراتيجي إدارة التنافس بين أميركا والصين التجميد الاستراتيجي إدارة التنافس بين أميركا والصين



GMT 14:58 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

عقليّة الغلبة دمّرت لبنان

GMT 14:32 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

محارق

GMT 14:31 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

صورة المسلم بين عائلتين

GMT 14:30 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

حزب البعث اللبناني: أهمية ما ليس مهماً

GMT 14:29 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

جوع وصقيع وفزع

GMT 14:29 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

أبواب دمشق

GMT 14:28 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

«كايسيد»... الحوار هو الخيار

GMT 14:26 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا والحوار المهيكل

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 09:23 2020 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

أعد النظر في طريقة تعاطيك مع الزملاء في العمل

GMT 06:50 2016 الجمعة ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

زلزال نيوزيلندا العنيف يتسبب في تحريك جزر رئيسية

GMT 22:25 2019 الثلاثاء ,16 إبريل / نيسان

3مستحضرات فقط تخفي علامات تعب وجهك نهائيا

GMT 18:35 2019 الخميس ,18 تموز / يوليو

5 أسرار لتطبيق المكياج من أجمل نساء بريطانيا

GMT 16:57 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

"موريشيوس" ملاذ رومانسي ساحر لقضاء شهر العسل

GMT 13:05 2012 الإثنين ,03 كانون الأول / ديسمبر

إضراب في مطار شرم الشيخ يتسبب في إغلاق جزئي أمام السياح

GMT 04:44 2018 الجمعة ,09 شباط / فبراير

لاكوتريبيس يعلن اكتشاف حقل غاز على سواحل قبرص

GMT 18:00 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

إتيكيت دفع فاتورة حساب المطعم

GMT 10:31 2013 الجمعة ,23 آب / أغسطس

نظافة المدرسة من نظافة الطلاب والمدرسين

GMT 07:27 2014 الثلاثاء ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

جائزة لـ«فقه العمران»

GMT 21:14 2019 الأربعاء ,03 إبريل / نيسان

تعرف علي توقعات أحوال الطقس في لبنان الاربعاء

GMT 18:27 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

انفجار في مدينة بنش في ريف إدلب السورية

GMT 00:31 2021 السبت ,13 آذار/ مارس

تخفيض سعر تعرفة فحص الـPCR الى 100 الف ل.ل!
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon