مع «بوستمان» التكنولوجيا والتسلية

مع «بوستمان» التكنولوجيا والتسلية

مع «بوستمان» التكنولوجيا والتسلية

 لبنان اليوم -

مع «بوستمان» التكنولوجيا والتسلية

بقلم : فهد سليمان الشقيران

لو قُدّر لفلاسفةٍ مثل جيل دلوز أو بيار بورديو، وغيرهما من الفلاسفة الذين انشغلوا بصدمة ظهور التلفزيون قبل عقود من الآن أن يعيشوا عوالم التكنولوجيا التي تتفجّر في وقتنا الحالي، ماذا عساهم سيقولون إذاً؟! من شبه المؤكد تقريباً أنهم ربما سيصابون بالذهول.

الاكتشافات التي تحدث عنها الفلاسفة في ذلك الوقت أصابها الضعف وفقدت بريقها ولم تعد قادرة على إثارة الدهشة.. لم تعد كما كانت. وحتى التلفزيون بات مطيعاً ومنصاعاً للتقنيات الحديثة مثل التطبيقات والمنصّات الرديفة التي وضعته على الرف وفي الهامش. أولئك الفلاسفة اعتبروا التلفازَ، ومن ثم السينما، من ذروات التقنية الحديثة، لكن التكنولوجيا بعد انطلاق عصر الإنترنت تطورت كثيراً وتحوّلت إلى أكسجين يستحيل الاستغناء عنه.. لقد صارت مثل الضوء والماء والهواء.

إن نقطة التحوّل الأساسية ليست في التقنية التي نعيشها الآن بوصفها تحكم أعمالنا وتوجه عمليات التواصل فيما بيننا، وإنما بتحوّلها إلى نمط توريط مستهلك للوقت، فهي تسحبك معها في شبكاتها من معلومةٍ إلى فيديو، إلى مقطعٍ ضاحك، إلى نوادر من محاضرةٍ بالأبيض والأسود، إلى فقرةٍ لحيوانٍ يقفز.. وهكذا دواليك!

فهي تجرّك معها أينما يممت وجهكَ ومهما حاولتَ الإفلاتَ منها. المنظّر في علاقة الإعلام والمجتمع نيل بوستمان ألّف في عام 1985 كتاباً بعنوان: «تسلية أنفسنا حتى الموت: الخطاب العام في عصر العرض التسويقي»، وقد اعتنى به ولخّصه الأستاذ يوسف عسيري لمجلة «حكمة». ومما ورد في الذي كتبه عسيري أن «بوستمان يجادل في كتابه بأنّ التلفزيون كأداة ووسيلة إعلامية نقلت الثقافةَ الأميركية إلى أن أصبحت حلبةً كبيرة من «العرض التسويقي الذي يحتوي على كل ما يهم الشأنَ العامَّ في شتى المجالات، مثل الدين والسياسة والتعليم والاقتصاد وغيرها، حيث أصبح كل ذلك من أجل التسلية».

لكن لماذا صعّد المؤلفُ ضد الإرباك في علاقات التكنولوجيا بالوعي في كتابٍ ألّفه في منتصف الثمانينيات؟! يجيب المترجم عسيري بأن بوستمان «يضرب مثالاً بأن التكنولوجيا للوسيلة الإعلامية هي مثل المخ بالنسبة للعقل، فالتكنولوجيا هي الجزء المادي للمحتوى الذي يمثل المجاز أو المعنى، فجاءت النتيجة غير متعمدة ولا متوقعة للتغير الهائل في التكنولوجيا لأنها غيرت طرائقَ التواصل والنقاش في الرأي العام، واستحالت بذلك إلى عقيدة تفرض نفسَها كنمط للحياة».

وتعليقي على هذا العرض باختصار هو أن التفوّق التكنولوجي، وبلا شك، مؤثر على «بنية الخطاب» وعلى الأسس المعرفية أو أسئلة الحكمة، لكن التكنولوجيا لن تأخذ دورَ الإنسان في بناء الخطاب أو صياغة الحقيقة، وآية ذلك أن التطوّر التقني غيّر من سرعة البحث العلمي، ومن أساليب التعليم، ومن طريقة الاقتناع بالأفكار، إلا أنه لم يذهب بعيداً ليكون صانعاً للخطاب أو مبتكراً للحقيقة. ولا يزال الإنسانُ أقوى من التقنية، حتى وإن لم يسيطر عليها بشكلٍ مطلق. لقد كان هيدغر متنبئاً حين رجّح أن التقنية ستكون مفيدةً ما دامت تحت هيمنة الإنسان وسيطرته، وبرأيي أن الإنسان لا يزال يسيطر حتى على الذكاء الاصطناعي، ولهذا مقالةٌ أخرى.

والخلاصة: إن التفوّق التقني مربك، وربما تشعّبه مقلق، كما أن انفلاته يبدو مزعجاً، وشبكاته التي تطوّقنا تخنقنا، غير أن هذا ثمن تفوّق العقل البشري، وحين نخاف لابد أن نواجه، لا أن نهرب.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مع «بوستمان» التكنولوجيا والتسلية مع «بوستمان» التكنولوجيا والتسلية



GMT 14:58 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

عقليّة الغلبة دمّرت لبنان

GMT 14:32 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

محارق

GMT 14:31 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

صورة المسلم بين عائلتين

GMT 14:30 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

حزب البعث اللبناني: أهمية ما ليس مهماً

GMT 14:29 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

جوع وصقيع وفزع

GMT 14:29 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

أبواب دمشق

GMT 14:28 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

«كايسيد»... الحوار هو الخيار

GMT 14:26 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا والحوار المهيكل

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 09:23 2020 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

أعد النظر في طريقة تعاطيك مع الزملاء في العمل

GMT 06:50 2016 الجمعة ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

زلزال نيوزيلندا العنيف يتسبب في تحريك جزر رئيسية

GMT 22:25 2019 الثلاثاء ,16 إبريل / نيسان

3مستحضرات فقط تخفي علامات تعب وجهك نهائيا

GMT 18:35 2019 الخميس ,18 تموز / يوليو

5 أسرار لتطبيق المكياج من أجمل نساء بريطانيا

GMT 16:57 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

"موريشيوس" ملاذ رومانسي ساحر لقضاء شهر العسل

GMT 13:05 2012 الإثنين ,03 كانون الأول / ديسمبر

إضراب في مطار شرم الشيخ يتسبب في إغلاق جزئي أمام السياح

GMT 04:44 2018 الجمعة ,09 شباط / فبراير

لاكوتريبيس يعلن اكتشاف حقل غاز على سواحل قبرص

GMT 18:00 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

إتيكيت دفع فاتورة حساب المطعم

GMT 10:31 2013 الجمعة ,23 آب / أغسطس

نظافة المدرسة من نظافة الطلاب والمدرسين

GMT 07:27 2014 الثلاثاء ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

جائزة لـ«فقه العمران»

GMT 21:14 2019 الأربعاء ,03 إبريل / نيسان

تعرف علي توقعات أحوال الطقس في لبنان الاربعاء

GMT 18:27 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

انفجار في مدينة بنش في ريف إدلب السورية

GMT 00:31 2021 السبت ,13 آذار/ مارس

تخفيض سعر تعرفة فحص الـPCR الى 100 الف ل.ل!
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon