لَا أَحسَبُ الشَّرَّ جَاراً

لَا أَحسَبُ الشَّرَّ جَاراً!

لَا أَحسَبُ الشَّرَّ جَاراً!

 لبنان اليوم -

لَا أَحسَبُ الشَّرَّ جَاراً

بقلم:تركي الدخيل

هَذانِ بَيْتَانِ جَمِيلَانِ، فِيهِمَا بَيَانُ إمْضَاءِ سُلطَانِ العَقلِ، وَالاقْتِيَادِ بِمُقْتَضَى الحِكْمَة، فِي اتِّخَاذِ قَرَاراتٍ شَخْصِيَّة، فِي أَحْوَالٍ تَمُرُّ بِالنَّاسِ كَافَة، فَيَسْعُدُ مَنْ يَفعَلُ مِثلَ الشَّاعِر، وَيَشْقَى مَنْ يَخْتَارُ خياراً مُناقِضاً لِلْأوَّل.

لَا أَحْـسَـبُ الشَّرَّ جَاراً لَا يُفَارِقُني

وَلَا أَحُزُّ عَـلَى مَا فَاتَنِي الْوَدَجَا

وَمَا نَزَلْتُ مِنَ الْمَكْـرُوْهِ مَنْـزِلَةً

إِلَّا وَثِقْتُ بِأَنْ أَلْقَى لَهَا فَرَجَا

يُحدّثُنَا الشَّاعِرُ عَنْ سِيَاسَتِهِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الأَحْدَاثِ، فَعِنْدَمَا يَمُرُّ بِه الشَّرُّ، يَعْتَبِرُهُ مُرُوراً عَابِراً، لَا طَوِيلَ إِقَامَة.

وَاسْتَخْدَمَ الشَّاعِرُ فِي تَقْيِيمِهِ الشَّرَّ، مِثَالَ: الجَار المُقِيم، إذْ أنَّهُ لَا يَحْسَبُه جَاراً غَيرَ مُفَارِق.

وَوَصْفُهُ الجَارَ بِالمُقِيم، لِلتَّفْرِيقِ بَينَهُ وَبَيْنَ الجَارِ المُتَحَوِّل، فَالجِيرَةُ تَكُونُ عَارِضَةً وَدَائِمَة.

ويَنتَقِلُ الشَّاعِرُ فِي عَجْزِ البَيْتِ لِلْحَدِيثِ عَنْ فَوَائِتِ الأَشْيَاءِ، إذْ لَا يَجْعَلُ حُزْنَهُ عَلَى مَا مَضَى يُودِي بِهِ إلَى حَتْفِهِ، مُعَبِّراً عَنْ هَذَا الحَتْفَ بـِحَـزِّ الوَدَج. وَالحَزُّ: هُوَ القَطْعُ. وَالوَدَجُ: عِرْقٌ فِي الرَّقَبَةِ، يُعِيدُ الدَّمَ من الرَّأسِ إلَى القَلْبِ، يَنْتَفِخُ عِنْدَ الغَضَب، وَيُقَالُ فِي المَثَلِ: «انْتَفَخَتْ أَوْدَاجُه»، إذَا غَضِبَ، وَالوَدَجُ عِرْقُ الحَيَاة، لَا بُدَّ مِنْ قَطْعِهِ لِلذَّبْح.

وَقَصَدَ الشَّاعِرُ أنْ يَقُولَ: أنَا لَا أَحْزَنُ عَلَى مَا يَفُوتُ وَيَمْضِي، إلَى حَدِّ قَتْلِ النَّفْسِ بحَزِّ عُنُقِي، وَالحَدِيثُ عَنْ قَتْلِهِ نَفْسَه، تَعْبِيرٌ عَنْ الحُزْنِ العَظِيم.

وَفِي البَيْتِ الثَّانِي، يَقُولُ:

وَمَا نَزَلْتُ مِنَ الْمَكْـرُوْهِ مَنْـزِلَةً

ِلَّا وَثِقْتُ بِأَنْ أَلْقَى لَهَا فَرَجَا

يُشَبِّهُ الشَّاعِرُ مُوَاجَهَةَ المَكْرُوهِ بِالرّحْلَةِ الّتِي يَنْزِلُ المُسَافِرُ خِلَالَهَا بِمَنَازِلَ لِلرَّاحَةِ ثُمَّ يَعُودُ لِمُوَاصَلَةِ سَيْرِه.

وَقَوْلُهُ: «وَمَا نَزَلْتُ مِنَ الْمَكْرُوْهِ مَنْزِلَةً»، أرَادَ بِهِ: مَا أَصَابَنِي مَكْرُوهٌ فِِي حَوَادِثِ الأَيَّام.

وَقَوْلُهُ: «إِلَّا وَثِـقْـتُ بِأَنْ أَلْقَى لَهَا فَـرَجَا»، يُرِيدُ بِهِ: إلَّا أيقَنتُ أَنَّ بعدَ العُسرِ يُسراً، وبعدَ الضِّيقِ سَعَةً.

وَالبَيْتَانِ لِلشَّاعِرِ عَبدِ اللهِ بْنِ الزَّبِيْرِ الأَسَدِيِّ، مِنْ أَسَدِ بنِ خُزَيمَةَ. «وَالزَّبِيرُ بِفَتْحِ الزَّاءِ وَتَشْدِيدِهَا، وَكَسْرِ البَاءِ بَعْدَها».

وَعَادَةً مَا يَخْتَلِطُ اسْمُ هَذَا الشَّاعِرِ مَعَ اسْمِ الصَّحَابِي، عًبْدِ اللهِ بنِ الزُّبَير «بِضَمِّ الزَّاءِ وَتَشْدِيدِهَا، وَفَتْحِ البَاء» بنِ العَوَّامِ الأسدِيّ، مِنْ أَسدِ قُرَيش، وَالِدُهُ: الزُّبَير، أَحَدُ العَشْرَةِ المُبَشَّرِينَ بِالجَنَّةِ، وَوَالِدَتُهُ: أسْمَاءُ بِنْتُ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيق، ذاتُ النِّطَاقَين.

وابنُ الزَّبِير الشَّاعِرُ، مِنْ شُعرَاءِ الكُوفَةِ الشَّهِيرينَ بِالهِجَاءِ فِي العَصْرِ الأُمَوِيّ، كَانَ مَرْهُوبَ اللّسَان، كَثِيرَ الهِجَاء، سَرِيعَ الغَضَبِ، كَثِيرَ التَّقَلُّبِ، مَدَحَ وَهَجَا أَعْيَانَ الكُوفَةِ وَوُلَاتَهَا، الأُمَوِيّينَ وَالزُّبَيْرِيّينَ، وَنَالَ مِنْهُمُ الرِّضَا وَالمَالَ وَالعَطَاء، ولَقِيَ مِنْهُمُ الصَّدَّ وَالجَفَاءَ وَالجَلْدَ وَالحَبْس، وَفْقًا لجَامِعِ شِعْرِه: الدُّكتُور يَحيَى الجبورِي.

وَفِي مَعْنىً مُقارِبٍ، يقولُ النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِي:

وَلَا يَحْسَبُونَ الخَيْرَ لَا شَرَّ بَعْدَهُ

وَلَا يَحْسَبُونَ الشَّرَّ ضَرْبَةَ لَازِبِ

واللَّازِبُ: اللَّاصِقُ. ومِنَ المَجَاز: صَارَ الأَمْر ضَرْبَةَ لازِبٍ، أَي: لازِماً، شَدِيداً، ثابِتاً، وَالعَرَبُ تقولُ: لَيْسَ هَذَا بضَرْبَةِ لَازِبٍ، وَلَازِمٍ، يُبْدِلُونَ البَاءَ مِيماً لِتَقَارُبِ المَخَارِجِ. قَالَ أَبُو بَكْر: مَعْنَى قَوْلِهِم: مَا هَذَا بضَرْبةِ لَازِبٍ، أَي: مَا هَذَا بِواجبٍ لَازم، أَي: مَا هَذا بضَرْبَةِ سَيْفٍ لازِب، وَهُوَ مَثَلٌ. وَصَارَ الشَّيْءُ ضَرْبَةَ لازِبٍ، أَي: لازِماً. (تاج العروس من جواهر القاموس)، للزبيدي.

وَعَنِ الضَّرْبَةِ الآنفة، يَقُولُ كُثَيِّرُ عَزَّةَ:

فَـمَـا وَرِقُ الـدُّنْيَا بِـبَـاقٍ لِأَهْـلِـهِ

وَمَـا شِـدَّةُ البَـلْـوَى بِضَـرْبَـةِ لَازِمِ

فَلَا تَجْزَعَنْ مِنْ شِدَّةٍ إِنَّ بَعْدَهَا

فَوَارِجَ تَلْوِي بِالْخُطُوبِ الْعَظَائِمِ

وَأَعَجَبَنِي اعْتِبَارُ الشَّاعِرِ حُضُورَ الفَرَجِ، يَلْوِي أَعْنَاقَ عَظَائِمِ الشَّدَائِد

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لَا أَحسَبُ الشَّرَّ جَاراً لَا أَحسَبُ الشَّرَّ جَاراً



GMT 21:13 2025 السبت ,27 كانون الأول / ديسمبر

درب السلام

GMT 21:10 2025 السبت ,27 كانون الأول / ديسمبر

من الوحدة الشاملة إلى براكين الدَّم والتَّشظّي

GMT 21:10 2025 السبت ,27 كانون الأول / ديسمبر

«داعش» وأعياد نهاية العام

GMT 21:07 2025 السبت ,27 كانون الأول / ديسمبر

المسيحية الصهيونية... من الهرطقة إلى تبرير الإبادة

GMT 21:06 2025 السبت ,27 كانون الأول / ديسمبر

المعنى الغائب في أكثر صراعات العالم حضوراً

GMT 21:05 2025 السبت ,27 كانون الأول / ديسمبر

حين قرأ كسينجر لحسن البنا

GMT 21:04 2025 السبت ,27 كانون الأول / ديسمبر

«ماغا»... رأب الصدع أم نهاية الائتلاف؟

GMT 21:03 2025 السبت ,27 كانون الأول / ديسمبر

أشياء فى حوار أديب

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 11:59 2020 السبت ,29 شباط / فبراير

يتحدث هذا اليوم عن مغازلة في محيط عملك

GMT 20:21 2021 الإثنين ,08 شباط / فبراير

أخطاؤك واضحة جدًا وقد تلفت أنظار المسؤولين

GMT 14:39 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

ينعشك هذا اليوم ويجعلك مقبلاً على الحياة

GMT 09:04 2023 الإثنين ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

خبير طبي يؤكد أن التدفئة مهمة جدًا للأطفال الخدج

GMT 11:33 2020 السبت ,29 شباط / فبراير

تنعم بحس الإدراك وسرعة البديهة

GMT 04:58 2025 السبت ,13 كانون الأول / ديسمبر

أفكار متنوعة لترتيب وسائد السرير

GMT 22:04 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

أمامك فرص مهنية جديدة غير معلنة

GMT 19:17 2022 الإثنين ,18 إبريل / نيسان

التيشيرت الأبيض يساعدك على تجديد إطلالاتك

GMT 19:02 2021 الثلاثاء ,21 كانون الأول / ديسمبر

النجمة يخرج العهد من كأس لبنان

GMT 18:52 2021 الأربعاء ,22 كانون الأول / ديسمبر

الجامعة اللبنانية وزعت نبذة عن رئيسها الجديد بسام بدران

GMT 15:33 2021 الإثنين ,05 تموز / يوليو

46 حالة جديدة من متحوّر “دلتا” في لبنان

GMT 18:30 2021 الثلاثاء ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مالك مكتبي يعود بموسم جديد من "أحمر بالخط العريض"
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon