حين يصبح طول العمر سلعة

حين يصبح طول العمر سلعة

حين يصبح طول العمر سلعة

 لبنان اليوم -

حين يصبح طول العمر سلعة

بقلم:جمعة بوكليب

إذا كان من حق شاعر وفيلسوف المَعرّة أبي العلاء المعرّي التعبير عن تعبه من الدنيا وتبرّمه وضيقه من العيش فيها، فإنه يصير من حق غيره أن يعارضه الرأي، والإعلان بأعلى صوت عن شغفه ورغبته في العيش بها أطول فترة زمنية ممكنة. ذلك أن الكرة الأرضية، في موضوع كهذا، على ضيقها وانقسامها، تتسع للرأيين، من دون خوف أن تنحرف عن خط سيرها، أو خشية أن تخرج عن مدارها.

أبو العلاء المعرّي ليس الأول ولا الوحيد في ذلك. ربما يكون أبرزهم لقدرته على تبيان المسألة بجمال شعري وفلسفي راقٍ. لكننا نعرف أن قبله وبعده وُجد كثيرون على مذهبه. لعل أقربهم للذاكرة الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى حين أبان عن ضيقه من العيش في الدنيا هرماً، في واحدة من قصائده المشهورة بقوله: «سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأمِ».

الغريب، أو بالأحرى الجميل، أن الشاعرَين ظلا حيين في ذاكرة الدنيا وأهلها. وما زلنا إلى اليوم نقرأ ونتدارس ما تركوه لنا من أشعار وحِكم. ومع ذلك، فإن كفتهما وأنصارهما في الميزان لا ترجح كفة معارضيهم ممن يحبون الحياة، ويتمنّون طول العمر.

الفتوحات الهائلة التي بلغتها علوم الطب الحديث، كان من أهم مباحثها إطالة عمر البشر من خلال ما أنجزته وتحققه كل يوم من تطورات طبية أعانت الإنسان على التغلب على أغلب الأمراض والأوبئة المهلكة، والعيش عمراً أطول وفي صحة جيدة. إلا أن الإنسان بطبعه مجبول على الطمع. وكلما عاش أكثر، رغب في المزيد، حتى يكاد يصبح مثل «إنكيدو» بطل ملحمة «غلغامش» في سعيه للحصول على «عشبة الشباب»، التي تملك مفعول حبّة سحرية، بأكلها يتحوّل الشيخ في لحظة إلى شاب، إلا أنها تقصر عن منحه الخلود.

في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، في العاصمة الصينية بكين، خلال احتفال الصين بالعيد الثمانين ليوم النصر، دعا الرئيس الصيني شي جينبينغ ضيوفاً عديدين لحضوره ومن ضمنهم كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. خلال أحد اللقاءات بين الاثنين، نسي الرئيس الصيني إغلاق لاقط الصوت. ومن خلال ذلك اللاقط عرف العالم أن الرئيسين كانا يناقشان موضوع إطالة العمر والعيش حتى بلوغ 150 عاماً. تحدث الرئيس الصيني عن التقدم الطبي وإمكانية توفير قطع غيار بشرية تحل محل التي استُهلكت! وانتشر ذاك الشريط القصير المسجل في كل العالم، وبخاصة في وسائل الإعلام الغربية.

قبل ذلك بأشهر عدة، تناولت وسائل الإعلام الدولية أخباراً تتعلق بأثرياء أميركيين جدد ممن أثروا في العقود الأخيرة وكونوا ثروات طائلة نتيجة استثماراتهم في التقنية الحديثة، وتصريحاتهم مؤخراً بالإنفاق على البحوث الطبية المتقدمة الهادفة إلى إطالة أعمار البشر، ويقصدون بذلك أعمارهم هم.

في الأسبوع الماضي، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية تقريراً على صفحتها الأولى يتناول البحوث العلمية الطبية في الصين ذات الصلة بإطالة عمر الإنسان حتى 150 سنة، ويؤكد التقرير أنها بلغت مرحلة متقدمة تجاوزت نظيراتها في الغرب. وأن البدايات تعود إلى فترة حكم الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، من خلال برنامج صحي أُطلق عليه اسم «مشروع صحة القادة»، والهدف منه كان إطالة أعمار القادة الصينيين.

التقرير يؤكد أن مشروع إطالة العمر عبر مكافحة الشيخوخة بالإبطاء، أصبح في السنوات الأخيرة، صناعة رائجة في الصين في أقاليم عدة تستقطب الأثرياء الصينيين، من خلال تقديم برامج متنوعة وبأجهزة وأدوية طبية متقدمة تعد بالعمل على إبطاء الشيخوخة وإطالة العمر. اللافت للاهتمام أن أصحاب الصناعة الجديدة التزموا الحذر في برامجهم المتنوعة بحرصهم على عدم التعهد لزبائنهم بضمان الخلود.

الصناعة الجديدة قامت على تجارب أجراها علماء غربيون في البيولوجيا، أنجزت في مختبرات علمية على فئران، وتمكنوا خلالها من إطالة أعمار تلك الفئران. والخلاصة التي وصلوا إليها هي أن ما يطيل أعمار فئران المختبرات يمكن أيضاً بتغييرات أو تعديلات طفيفة أن يطبق على الإنسان ويطيل في سنوات عمره.

الصناعة البيولوجية الجديدة زبائنها من أصحاب المليارات. وهذا يفضي بنا إلى سؤال: هل سيكون طول العمر امتيازاً جديداً يُضاف إلى قائمة الفوارق الطبقية الموجودة في عالمنا الأرضي؟

بمعنى إذا كان الطمع البشري في الخلود، أو بالأحرى العيش 150 عاماً، قد تحوّل إلى تكنولوجيا قابلة للشراء، فنحن إذن - شئنا أم أبينا - بصدد بناء عالم جديد، ودخول مرحلة تاريخية جديدة، حيث السأم والتبرّم من العيش في الحياة يكونان مقتصرين على الفقراء، ويكون طول العمر والعافية حِكراً على الأغنياء.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حين يصبح طول العمر سلعة حين يصبح طول العمر سلعة



GMT 22:09 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

سنوات الهباء

GMT 21:09 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

حضرموت ومنطق الدولة

GMT 20:52 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

عن هجاء «النظام الطائفي» في لبنان

GMT 20:51 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

الغرب يعالج مشاكله... على حساب الآخرين!

GMT 20:50 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

المشهد البريطاني تحت قبضة «الإصلاح»

GMT 20:49 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

أفكار حول التطوّر التقني وحيرة الإنسان

GMT 20:48 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

بدور نسجت تاريخها

GMT 20:45 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

على وزن المطار السري

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم
 لبنان اليوم - الجزر وفيتامين A عنصران أساسيان لصحة العين وتحسين الرؤية

GMT 13:42 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

يحذرك هذا اليوم من المخاطرة والمجازفة

GMT 10:45 2020 السبت ,29 شباط / فبراير

التصرف بطريقة عشوائية لن يكون سهلاً

GMT 17:53 2020 الثلاثاء ,27 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج العذراء الإثنين 26 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 16:53 2021 الثلاثاء ,05 كانون الثاني / يناير

فساتين زفاف من جيني بايكهام لخريف 2021

GMT 16:44 2018 الثلاثاء ,23 كانون الثاني / يناير

تسريب صور مخلة للآداب للممثلة السورية لونا الحسن

GMT 21:23 2019 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

جبران باسيل يلتقي وكيل وزارة الخارجية الأميركية

GMT 16:36 2019 الثلاثاء ,22 كانون الثاني / يناير

النجمة يستعير لاعب الترجي التونسي شاونا

GMT 12:17 2019 الثلاثاء ,28 أيار / مايو

بوتين والسيسي يترأسان أول قمة روسية إفريقية

GMT 11:37 2017 الخميس ,05 تشرين الأول / أكتوبر

إنفوغراف 21
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon