العربية مشكلة سياسية

العربية مشكلة سياسية

العربية مشكلة سياسية

 لبنان اليوم -

العربية مشكلة سياسية

بقلم:سوسن الأبطح

يقرأ المواطن البنغلاديشي المقيم في أستراليا، إسماعيل أرمان، القرآن، بلغته الأم وبالعربية أيضاً، لكنه بمرور الوقت شعر بأن عدم فهمه للعربية يؤثر على إيمانه، وبعد أن ذهب لأداء فريضة الحج أدرك أن ثمة ما ينقص. يروي على قناته في «يوتيوب» التي لها آلاف المتابعين، أنه قرر تعلم الفصحى ليفهم المعاني ويستعيد روحانيته المفقودة، ولمّا لم يجد من يتحدث معه، لجأ إلى «تشات جي بي تي» يبادله الحوار دقائق قليلة كل يوم، وبعد ثلاثة أشهر فقط بات قادراً على الفهم والمحادثة، وهو مستمر في تقوية مهاراته.

لا يدرّس أرمان متابعيه العربية، لكنه يرشدهم إلى الطريقة التي تعلّم بها بواسطة الذكاء الاصطناعي، الذي أصبح فرصة لكل مسلم.

قريباً، لن يكون أحد بحاجة إلى لغة أجنبية للتواصل التجاري أو المعرفي، لأن الترجمة الآلية الفورية تقوم بالمهمة، لكن أرمان وأكثر من مليار ونصف مسلم في العالم سيوجد بينهم الملايين ممن يحلمون بفهم كتابهم الديني بلغته العربية، ويثابرون على تعلمها.

ميزة استثنائية ليست للغات الأخرى، ولا تخضع لتحولات ظرفية. اليابانيون مثلاً، لا يتحدثون أي لغة أجنبية، من المطار يستقبلونك بلغة الإشارة، وفي الفندق الترجمة الآلية تفي بالغرض، حتى في استعلامات «إكسبو أوساكا» هذا العام، الحدث العالمي الأضخم الذي تجند له الدول مترجميها، لم يجهد اليابانيون أنفسهم في النطق بغير لغتهم طالما أن ثمة آلة تقوم بالمهمة. وإذا كنت تظنها استثناءً، فالصينيون سيحكمون العالم، وها هم يتفوقون حتى على أميركا، ولا يجد مواطنهم فخراً في أن يرطن الإنجليزية، بل أن يتقن لغته الوطنية ويتفنن بها. وهم ربما محقون، فالعصر الجديد، يفتح الآفاق بين اللغات والثقافات. فأنت تسأل تطبيقك الذكي باللغة التي تريد، فيأتيك بالإجابة من لغات عدة، ويقدمها لك بلغة السؤال، بلمحة طرف. هكذا يصبح تعلمك للأجنبية، فضولاً يساعد على تمرين العقل، وفهم الذهنيات، وتسهيل التواصل. أما العلم فمسالكه مشرعة بلا حواجز لغوية.

وفي اليوم العالمي للغة العربية، نتذكر كل سنة خسائرنا، واللكمات الأليمة التي نسددها للغتنا. فالأمية في ارتفاع بسبب مآسي الحروب الممتدة وأطفالها المشردين. والشعور العميق بالخور والانكسار، يجعل شبابنا يميلون إلى التبرؤ من لغتهم، ويفضلون الألسن المعوجّة، والجمل الهجينة الغامضة، على لغة صافية عريقة، مما يزيد الفجوة بين العامية والفصحى، بدل أن تتقاربا. النتيجة عزوف عن الكتابة بالعربية، مع أن العصر الرقمي تشيد مداميكه على بيانات الأمم، التي تحولت عندنا إلى نتف وتشوهات. ومع ذلك ينمو المحتوى العربي بسرعة قياسية، لا بفضل عبقريتنا، بل بأفضال أجدادنا الذين أصبحت كتاباتهم زاداً لتدريب النماذج اللغوية، بعد أن سهّل التصوير الرقمي، إدخال النصوص وبرمجتها.

أهدرنا وقتاً طويلاً، لندرك أن لغتنا الاشتقاقية نعمة ليست لغيرنا، وبعد أن تعثرت بحجة أن بها من الكلمات المتشابهات ما يصعّب فهمها، ها قد أصبح التعامل مع الجذر ومشتقاته من المسهلات. إذ يكفي فهم الجذر، للاستدلال على باقي متفرعاته بدقة تفوق اللغات التي تعتمد على التركيب اللفظي العشوائي.

عندما ترى المنصات الذكية تسارع إلى تطويع العربية وتطوير استخدامها، تدرك أهميتها التي نجهلها. هذه ليست جمعيات خيرية، ولا منظمات تدافع عن المساواة وحقوق الإنسان في استخدام التكنولوجيا، بل شركات تجارية، تستميت في سبيل الربح، ولو أعدمت نصف سكان الكوكب. وكل ما يعنيها هو النجاح وكسب الجيوب والقلوب.

العربية الخامسة عالمياً من حيث عدد المتحدثين، وثمة إحصاءات تظهر أن الناطقين بها لغةً أولى قد يكون عددهم وصل إلى نصف مليار، فضلاً عن الذين يفهمونها ويقرأونها وليست لغتهم الأولى. فهي تنتعش في منطقة واحدة مترابطة جغرافياً، وفي 22 دولة، عملياً، ليس فيها تعدد لغوي بالمعنى الحقيقي، وإن أحب البعض ادعاء غير ذلك. في الإحصاءات العالمية، كل عربي يفترض أنه يتحدث العربية في بيته. وبلداننا ليست كأميركا التي تتواصل فيها العائلات في منازلها بنحو 400 لغة، وفي الصين 130، وروسيا مائة على الأقل.

نحن عرب، ومع ذلك العربية مضطهدة، وتخضع لتعنيف وصدمات، غالبيتها متأتية من أبنائها. المشكلة لا تكنولوجية، ولا نحوية. وكل كلام عن صعوبة العربية هرطقة. لأن اللغة تسهل بقدر ما تستخدمها وتحبها. والصينية التي هي للبعض لغز، ستصبح بعد قليل، مشتهى الراغبين في التقرب من أصدقائهم وشركائهم الصينيين. عندها لن يسخر أحد من أنها تكتب بالطول أو بالعرض، وسيرسمونها على الجدران، ويعلقونها كالتعاويذ في اللوحات.

العربية حلّها يأتي بقرار سياسي وتربوي، تماماً كما في الصين واليابان. فالطالب لا يترك المدرسة إلا وقد قرأ كبار الأدباء، وتعرف إلى أمهات كتب التراث، وعرف تاريخه، واعتدّ بأصوله، وشعر بالفخر بانتمائه. أما تخريج أجيال تستصغر نفسها، وتحتقر تاريخها، وتتبرأ من لغتها، فتلك كارثة لن يصلحها أي نظام ذكي مهما بلغت عبقريته.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

العربية مشكلة سياسية العربية مشكلة سياسية



GMT 21:13 2025 السبت ,27 كانون الأول / ديسمبر

درب السلام

GMT 21:12 2025 السبت ,27 كانون الأول / ديسمبر

لَا أَحسَبُ الشَّرَّ جَاراً!

GMT 21:10 2025 السبت ,27 كانون الأول / ديسمبر

من الوحدة الشاملة إلى براكين الدَّم والتَّشظّي

GMT 21:10 2025 السبت ,27 كانون الأول / ديسمبر

«داعش» وأعياد نهاية العام

GMT 21:07 2025 السبت ,27 كانون الأول / ديسمبر

المسيحية الصهيونية... من الهرطقة إلى تبرير الإبادة

GMT 21:06 2025 السبت ,27 كانون الأول / ديسمبر

المعنى الغائب في أكثر صراعات العالم حضوراً

GMT 21:05 2025 السبت ,27 كانون الأول / ديسمبر

حين قرأ كسينجر لحسن البنا

GMT 21:04 2025 السبت ,27 كانون الأول / ديسمبر

«ماغا»... رأب الصدع أم نهاية الائتلاف؟

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 04:11 2025 الخميس ,08 أيار / مايو

البرج الطالع وتأثيره على الشخصية والحياة

GMT 16:08 2024 الخميس ,24 تشرين الأول / أكتوبر

الأمير فيصل بن فرحان يترأس وفد السعودية في قمة "بريكس بلس"

GMT 07:38 2023 الثلاثاء ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل 10 عطور رقيقة للعروس

GMT 19:43 2021 الخميس ,07 كانون الثاني / يناير

الأردني محمد الدميري يتفوق على السوري عمر السومة

GMT 19:02 2022 الجمعة ,07 كانون الثاني / يناير

ساؤول يتطلع إلى استعادة أفضل مستوياته مع تشيلسي

GMT 20:30 2021 الإثنين ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أثيوبيا تنفي شنّ هجوم على السودان وتحمل متمرّدين المسؤولية

GMT 08:19 2019 الأربعاء ,09 كانون الثاني / يناير

تغريم امرأة تركية خرقت "واجب الإخلاص" لطليقها وهربت مع صهره

GMT 23:04 2021 الأربعاء ,13 كانون الثاني / يناير

إصابة تريزيجيه بفيروس كورونا وابتعاده عن مباريات أستون فيلا

GMT 06:35 2017 الأربعاء ,13 كانون الأول / ديسمبر

التلميذ.. ونجاح الأستاذ
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon