الفاشر وتغيّر قلوب الرجال

الفاشر وتغيّر قلوب الرجال

الفاشر وتغيّر قلوب الرجال

 لبنان اليوم -

الفاشر وتغيّر قلوب الرجال

بقلم:مأمون فندي

قبل أكثر من قرن، وتحديداً بين 1898 و1916، كان قلب السلطان علي دينار، سلطان دارفور حيث الفاشر عاصمة السلطنة، يخفق بإيقاع مختلف؛ إيقاع قلب يتوجه، كما في الصلاة، صوب مكة. جاء علي دينار بعد هزيمة المهدية وانهيار السلطنة، فنهض بدارفور من ركام التاريخ، وبنى مجداً جديداً بلغ ذروته الروحية قبل السياسية. رمزية علي دينار تمثلت في إنشاء ورشة صغيرة لنسج كسوة الكعبة المشرفة؛ لم تكن مصنعاً بالمعنى الصناعي، بل خلوة للنور، يطرّز فيها رجال دارفور ونساؤها القماش الأسود كأنهم يطوون قلوبهم في ثناياه، وترتد خيوط النسيج من دارفور إلى مكة، حيث مهوى الأفئدة.

كان علي دينار يرى الطريق من الفاشر إلى مكة جزءاً من رسالته. يرسل القوافل عبر السودان والحجاز، ويشدّ الرحال مع رجاله إلى بيت الله، لا أميراً يستعرض سلطته، بل عبداً يتقرب بقلبه. وحين حفر الآبار حول المواقيت ليشرب منها الحاجّ القادم من أقصى الأرض، كان يترك بصمة روحه في الماء، كأنه يسكب في كل قطرة دعاءً بأن تبقى دارفور مكاناً طيباً، مستقراً، طاهراً.

اليوم، حين نتأمل خراب الفاشر، تصدمنا قسوة الصور: المدينة التي كانت تطوي كسوة الكعبة، بالتناوب مع بلدان أخرى، أصبحت مقبرة لأطفال ونساء، وفراراً جماعياً من دمار لا يرحم. لم يعد صدى خطى السلطان يملأ الأزقة، بل هدير الرصاص. ولم تعد رحلة النور إلى مكة، بل نزوح داخلي تائه بلا وجهة. مدينة صمدت لقرون، فإذا بها فجأة على حافة الفناء، كأن التاريخ نفسه يقف حائراً أمام ما يراه، يصعب عليه تسجيله أو وصفه.

منذ بدء هجمة «قوات الدعم السريع» على قلب الفاشر، وهتك أهلها، وإذلال عزّتها، لم يبقَ الكثير من قلب المدينة ولا من نور قلب علي دينار.

المدينة التي كانت تصنع كسوة الكعبة أصبحت مفرمة للبشر، ومصنع إبادة وحريق يشوي الأجساد بلا أفران، في مشاهد تقشعر لها الأبدان. البيوت تحترق، الطرقات تُقصف، والمستشفيات تنهار أمام جرحى لا يجدون حتى الماء الذي تركه السلطان قبل أكثر من قرن للحجيج. كأن الفاشر فقدت قلبها دفعة واحدة، واستسلمت لنبض بارد لا يشبه أهلها. اكتست المدينة بقسوة منتهكيها، ببدائيتهم التي لا ترتوي إلا بمشاهد القتل الجماعي.

وفي مواجهة هذا المشهد السوداني المأزوم، يبرز رجل آخر بقلب مختلف، يحاول أن يعيد شيئاً من نور الفاشر إلى مكانه. إنه الأمير محمد بن سلمان الذي فتح في واشنطن لأهل السودان باباً آخر للتاريخ. أحس بفطرته السليمة، وبما تعلمه من توجيهات الملك سلمان، أن لا بد من مخرج لهذا الانهيار الإنساني الذي يبتلع دارفور وجموع أرض السودان. قلبٌ مختلف أدرك أن دوره الأخلاقي يحتم أن تُمد يد للسودان قبل أن ينهار ما تبقى من الجدار.

من موقعه ودوره الإقليمي، اقترب الأمير من الجرح السوداني بحسابات سياسية بلا شك، لكن أيضاً -وأقولها بصدق الرائي لا المادح - بنَفَس يشبه ما يفعله داخل السعودية نفسها: إعادة بناء الإنسان قبل الحجر، وتنظيم الفوضى لتصبح حياة لها معنى. فالسياستان: الخارجية والداخلية، تلتقيان عند نقطة واحدة؛ قلبٌ يريد أن يصلح لا أن يهدم.

محاولات المملكة لوقف النزيف في السودان ليست وصفة سحرية، ولا يُحمَّل عليها ما لا تحتمل، لكنها تطرح سؤال: أين القلب الذي ضاع؟ وكيف نسترده؟

وحين ننظر إلى الفاشر بهذا المنظار، نرى أن القضية ليست مجرد حرب أو تنازع على سلطة؛ إنها قصة تغيّر قلوب الرجال: قلب علي دينار الذي حمل الكسوة إلى مكة، وقلوب معتدين حملت الدمار إلى الفاشر، وقلب محمد بن سلمان الذي يحاول أن يجمع الشمل قبل أن تتحول دارفور إلى حكاية ضائعة في كتاب قديم.

تاريخ الفاشر لا يبدأ بالحرب، ولا ينبغي أن ينتهي بها. هذه مدينة كتب فيها علي دينار صفحة مضيئة تُذكر إلى اليوم، لكن الزمن كتب عليها صفحات أخرى أقل رحمة. ليست المأساة في تبدّل الأحداث، بل في تبدّل القلوب التي تدير الأحداث. فأرضٌ كانت تصنع كسوة الكعبة لا يجوز أن تُختتم قصتها بخرابٍ وبشاعة نراها تتساقط أمامنا على الشاشات.

هناك شيء في روح المكان يرفض الانطفاء: دعاء الحجاج الذين شربوا من آبار السلطان، ضوء الكسوة التي خرجت منها، ما يجعل الفاشر - رغم كل شيء - قابلة للعودة. ولعل عصراً جديداً، بقيادة من يريدون الإصلاح لا الهدم، قادر على إعادة توجيه البوصلة، لا إلى الماضي، بل إلى ما يشبه قيمه: الإيمان بالخدمة، واحترام الإنسان، وبناء المدن التي تستحق الحياة من جديد.

الفاشر اليوم ليست ما كانت عليه بين 1898 و1916. ولكن ربما، إذا صدقت النيات وتغيّرت قلوب الرجال، يمكن أن تعود مدينةً يتجه نورها إلى مكة، لا إلى المجهول.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الفاشر وتغيّر قلوب الرجال الفاشر وتغيّر قلوب الرجال



GMT 19:59 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

عودوا إلى دياركم

GMT 19:58 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

عفونة العقل حسب إيلون ماسك

GMT 19:57 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

المفتاح الأساسي لإنهاء حرب السودان

GMT 19:56 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

أميركا تناشد ‏الهند وباكستان تجنب «الانفجار المفاجئ»

GMT 19:55 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

تجيير الهزيمة

GMT 19:53 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا والخطر على الهوية الوطنية والسياسية

GMT 19:52 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

أميركا... «أطلس» يُحجّم ومونرو يُقدّم

GMT 19:51 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

الهجرة إلى التاريخ في زمن الهزائم

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 15:48 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

لا تتورط في مشاكل الآخرين ولا تجازف

GMT 09:49 2022 الجمعة ,11 آذار/ مارس

عطور تُناسب عروس موسم ربيع وصيف 2022

GMT 16:41 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لتناول غذاء صحي ومتوازن في أماكن العمل

GMT 03:47 2012 الأربعاء ,05 كانون الأول / ديسمبر

تأجيل الاتفاق على الرقابة المصرفية لمنطقة اليورو

GMT 05:56 2012 الأربعاء ,05 كانون الأول / ديسمبر

وزير الداخلية الأردني: سنعالج ملف العمالة الوافدة كلها

GMT 08:55 2019 الأحد ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

فوائد الفحم للشعر وطريقة عمل قناع منه

GMT 00:39 2019 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

نتائج مثيرة لما بحث عنه مستخدمو الإنترنت على "غوغل" في 2019

GMT 10:01 2022 الأربعاء ,13 إبريل / نيسان

أفكار في الديكور للجلسات الخارجّية الشتويّة

GMT 15:28 2016 الخميس ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

برج الحصان..ذكي وشعبي ويملك شخصية بعيدة تماما عن الصبر

GMT 18:44 2019 الخميس ,18 تموز / يوليو

إتيكيت وضع المكياج في الأماكن العامة

GMT 19:26 2019 الإثنين ,15 إبريل / نيسان

المصائب تتوالى على سان جيرمان أمام ليل
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon