الصين تنسى فقدان الذاكرة

الصين تنسى فقدان الذاكرة

الصين تنسى فقدان الذاكرة

 لبنان اليوم -

الصين تنسى فقدان الذاكرة

بقلم : أمير طاهري

تصدرت الصين، الأسبوع الماضي، عناوين الأخبار العالمية بحدثين قد يغيران تصورنا لدورها ومكانتها في النظام الدولي، إمّا بشكل سلبي أو إيجابي. تمثل الحدث الأول في القمة التي عقدتها ما تسمّى «منظمة شنغهاي للتعاون (SCO)»، بحضور رؤساء 10 دول أعضاء، إضافة إلى قيادات 10 دول أخرى تسعى للانضمام.

وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من الفئة الأولى، إلى جانب رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، ونظيره الباكستاني شهباز شريف، ومجموعة من قادة جمهوريات آسيا الوسطى المنتهية أسماؤها بـ«ستان»، إضافة إلى إيران. أما الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وزعيم كوريا الشمالية كيم يونغ-أون فكانا ضمن الفئة الثانية.

من جهتهم، رأى المحللون الغربيون في قمة تيانجين محاولة لبناء قطب منافس يتحدّى الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين واليابانيين. وفي تحليلاتهم للقمة، عزفوا على النغمة القديمة الخاصة بـ«نظام عالمي متعدد الأقطاب»، غافلين أنّه من الناحية الجغرافية لا يمكن أن يكون للعالم أكثر من قطبين.

الآن، دعونا نفكر خارج الصندوق ونقُل إن قمة تيانجين قد تكون مثالاً لتطبيق «عقيدة نيكسون» في سياق جديد. يُذكر أن «عقيدة نيكسون» جرى تصميمها لإرساء نظام عالمي جديد، لا تقع فيه مسؤولية حفظ السلم والأمن على عاتق الولايات المتحدة حصراً. وبموجب هذه العقيدة، تبقى الولايات المتحدة ملتزمة بكل معاهداتها، خاصة عبر حلف «الناتو» و«حلف بغداد» (سنتو) و«منظمة معاهدة جنوب شرق آسيا» (سيتو)، لكنها لن تتدخل بعد ذلك في نزاعات عسكرية أخرى بإرسال قوات برية.

ومن النتائج المترتبة على هذه العقيدة أن الولايات المتحدة تصورت إنشاء عدة «مراكز استقرار» حول واحدة أو اثنتين من الدول القوية محلياً، بغية حفظ السلم والأمن في مناطقها. وبموجب هذا النظام، تتمكّن الدول المُدرجة في «المركز» كذلك من حل خلافاتها بنفسها، وتجنّب النزاعات العسكرية التي قد تستدعي تدخل القوى الخارجية.

ويمكن لمنظمة شنغهاي للتعاون، بقيادة الصين، أن تتطور إلى مثل هذا «المركز»، دون أن تُشكّل بالضرورة تهديداً للقوى الغربية أو اليابان.

اللافت أن جميع أعضاء المنظمة لديهم نزاعات حدودية وسياسية قديمة وعميقة. والآن، إذا نجحت منظمة شنغهاي للتعاون، بفضل وساطة بكين وقيادتها، في تسوية بؤر التوتر والصراع، ألن يكون حرياً بنا الإشادة بتيانجين بصفتها مثالاً جيداً على تطبيق «عقيدة نيكسون»؟

وتُظهر القراءة المتأنية لخطاب الرئيس الصيني شي جينبينغ، والبيان الصادر بعد القمة، أن بكين لا تلتزم، بأي شكل، بتقديم دعم عسكري لأي عضو في منظمة شنغهاي للتعاون قد يُقْدم على عدوان ضد دول أخرى. بمعنى أن الصين تنظر إلى المنظمة بوصفها آلية للردع وكبح جماح الدول الأعضاء، وليس جوقة تهتف للتوسّع والعدوان. أما الحدث الثاني، الاستعراض العسكري الضخم وغير المسبوق في بكين، فقد عَدَّه كثير من المحللين الغربيين علامة على نيات شي العدوانية. ووفق هذه القراءة، يريد شي إزاحة واشنطن من موقعها بوصفها ضامناً وحيداً لما تبقّى من نظام عالمي مُتداعٍ.

ومع ذلك، ربما تكون هناك قراءة أخرى. عبر استعراض قدراتها العسكرية المكتسَبة حديثاً، ربما تتقدم بكين ببساطة بطلب للحصول على مقعد على طاولة الكبار. ألا يفوق العرض العسكري الفرنسي في 14 يوليو (تموز) من كل عام ما قدّمه شي في بكين؟ ألا تستعرض روسيا، هي الأخرى، قوتها العسكرية، كل عام، في احتفالها بالنصر في الحرب العالمية الثانية؟ وبطبيعة الحال لا نزال نذكر جميعاً العرض العسكري، الذي نظّمه الرئيس الأميركي دونالد ترمب في عيد ميلاده؟ فإذا كان ديكتاتور صغير مثل كيم يونغ-أون مسموحاً له باستعراضه الخاص، فلماذا يُلام الرئيس شي إذا أراد أن «يأخذ نصيبه من هذه الكعكة»؟

في واقع الأمر، حمل العرض العسكري في بكين رسالة أعمق بكثير، فقد قدّمه شي بوصفه احتفاءً بالدور الصيني في «هزيمة الفاشية» خلال الحرب العالمية الثانية، لينضم بذلك - وللمرة الأولى - إلى السردية التي دفعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وبريطانيا والصين قبل حكم ماو، وفرنسا، إلى قيادة النظام العالمي الجديد عبر الأمم المتحدة.

بمعنى آخر، يبدو أن شي يتجاوز حالة فقدان الذاكرة التاريخية التي فرضها ماو تسي تونغ بشعاراته الشهيرة مثل: «اهدم القديم لتبني الجديد»، و«انسَ الماضي وتخيّل المستقبل». من منظور ماو، كان النظام الذي أنشأه عام 1949 كالشهاب بلا ماضٍ، يهوي إلى العالم في مساره الخاص.

في الواقع، لقد صُمّمت «الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى» من أجل «محو ذاكرة الماضي». وكان ياو ونيوان من مُنظّري تلك الثورة، يرى أن الصين الشيوعية «طفل مولود بقرن جديد»، من دون ذاكرة لما أنجزه أسلافها. وهكذا حُظرت ضفائر الشعر، وحُطّمت مزهريات أسرة مينغ، ومُنع فن الخط، وأُسكتت الموسيقى الكلاسيكية الصينية، ونُبذ الشعر بوصفه بقايا إقطاعية، واستُبدلت بالمباني القديمة كتل ضخمة على النمط الستاليني أَشبه بخلية النحل. والأهم من ذلك أن البوذية قمعت، وجرى تحويل كونفوشيوس إلى عدو للشعب.

أما دور الصين في تأسيس «عصبة الأمم»، ولاحقاً «الأمم المتحدة»، فقد تعرَّض للطمس كذلك، لمجرد أنه حدث قبل أن يستولي الشيوعيون على السلطة. ومن بين الأمور التي طواها النسيان كذلك، الحرب البطولية التي خاضتها الصين ضد العدوان الياباني خلال الحرب العالمية الثانية، فقط لأنها جرت تحت قيادة «الكومينتانغ» (الحزب القومي الصيني) القومية.

ولم يكن الماويون أول الثوار الذين حاولوا زرع النسيان في المجتمعات التي هيمنوا عليها، فقد عمد الثوار الفرنسيون في القرن الثامن عشر إلى تغيير التقويم كذلك ليبدأوا بحساب الوقت من السنة الأولى لاستيلائهم على السلطة.

ومن جهته، يحاول شي إنهاء حالة فقدان الذاكرة الصينية بتذكير شعبه والعالم بأن بكين لم تبدأ مع اندلاع الثورة الماوية عام 1949. كما أنه يناضل لاستعادة مكانة بلاده بوصفها قوة عظمى، شئنا أم أبينا. واليوم، الأمر متروك للآخرين لينظروا إليها كخصم، أو منافس، أو شريك، أو عدو. والمؤكَّد أن أمة من دون ذاكرة أخطر بكثير من أمة قادرة على تذكر تاريخ أسلافها. ومع ذلك، ثمة تحذير مهم الانتباه إليه: إذا أُسيئت إدارة الذاكرة وجرى استغلالها لتأجيج مشاعر الاستياء القديمة، فقد تكون محاولات إنعاش الذاكرة التاريخية على القدر نفسه من الخطورة مثل فقدان الذاكرة.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الصين تنسى فقدان الذاكرة الصين تنسى فقدان الذاكرة



GMT 19:59 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

عودوا إلى دياركم

GMT 19:58 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

عفونة العقل حسب إيلون ماسك

GMT 19:57 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

المفتاح الأساسي لإنهاء حرب السودان

GMT 19:56 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

أميركا تناشد ‏الهند وباكستان تجنب «الانفجار المفاجئ»

GMT 19:55 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

تجيير الهزيمة

GMT 19:53 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا والخطر على الهوية الوطنية والسياسية

GMT 19:52 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

أميركا... «أطلس» يُحجّم ومونرو يُقدّم

GMT 19:51 2025 الخميس ,11 كانون الأول / ديسمبر

الهجرة إلى التاريخ في زمن الهزائم

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 15:48 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

لا تتورط في مشاكل الآخرين ولا تجازف

GMT 09:49 2022 الجمعة ,11 آذار/ مارس

عطور تُناسب عروس موسم ربيع وصيف 2022

GMT 16:41 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لتناول غذاء صحي ومتوازن في أماكن العمل

GMT 03:47 2012 الأربعاء ,05 كانون الأول / ديسمبر

تأجيل الاتفاق على الرقابة المصرفية لمنطقة اليورو

GMT 05:56 2012 الأربعاء ,05 كانون الأول / ديسمبر

وزير الداخلية الأردني: سنعالج ملف العمالة الوافدة كلها

GMT 08:55 2019 الأحد ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

فوائد الفحم للشعر وطريقة عمل قناع منه

GMT 00:39 2019 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

نتائج مثيرة لما بحث عنه مستخدمو الإنترنت على "غوغل" في 2019

GMT 10:01 2022 الأربعاء ,13 إبريل / نيسان

أفكار في الديكور للجلسات الخارجّية الشتويّة

GMT 15:28 2016 الخميس ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

برج الحصان..ذكي وشعبي ويملك شخصية بعيدة تماما عن الصبر

GMT 18:44 2019 الخميس ,18 تموز / يوليو

إتيكيت وضع المكياج في الأماكن العامة

GMT 19:26 2019 الإثنين ,15 إبريل / نيسان

المصائب تتوالى على سان جيرمان أمام ليل
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon