وضوح ما بعد الثورات

وضوح ما بعد الثورات

وضوح ما بعد الثورات

 لبنان اليوم -

وضوح ما بعد الثورات

حازم صاغية

استدرجت الثورات العربية قدراً من الوضوح إلى حياتنا، فلم يعد الغامض والملتبس غامضاً وملتبساً. وبغض النظر عن المآلات التي قد تنتهي إليها الثورات، فإنها رسمت الخط بين من يرفضون الواقع القائم ومن يريدونه بحجج «ثورية». لكن ما هو أبعد وأهم أنها طعنت الأيديولوجيا الشعبية الجامعة التي أفردت، على مدى عقود، مكاناً لكل شيء وبجلت كل شيء.
فالجيش، قبل الثورات، هو جيشـ»نا» الموصوف بأنه مفدى وباسل، كائناً ما كان رصيده في القمع والهزائم. أما الـ»نا» فتعود إلينا جميعاً، حاكمين ومحكومين، سجانين ومسجونين...
وربما لأن «ثوراتنا» في الخمسينات والستينات كانت انقلابات عسكرية، تشربت الثوريةُ التي راجت محافظةً عميقة مفادها احترام الجيوش وتبني إيديولوجيتها التي تصورها صنواً للوطنية.
أمرٌ آخر كان يخص طريقة تقديمنا للدين. فهو، وفقاً لما اقتنعنا، أو لما تظاهرنا، ملازم لكل فعل ثوري إن لم يكن مرشداً له ومصدراً لإلهامه. وما دامت الثورة، كما قُدمت في الخمسينات والستينات تستهدف الغريب وتستمطر الذات الأصيلة، بات دينـ»نا» جزءاً من تلك الثورة، وتلك الثورة جزءاً من إملاءات دينـ»نا». وربما لأن الناصرية والبعث والثورتين الجزائرية والفلسطينية، كلاً منها بطريقته، زاوجت بين القومية والوطنية والدين، تعزز الموقع التسليمي للأخير في حياتنا.
هكذا بدا الجيش والدين مما لا يجوز عليه الانقسام، ومما لا يحض إلا على الوحدة والإجماع.
الآن، وبفضل ثورات «الربيع العربي» وتداعياتها المُرة، يبدو الأمر أوضح، ففي ثورة يناير المصرية اعتُبر أن الجيش إنما وقف مع الثورة ضد حسني مبارك. وكان لاعتبار كهذا أن ضاعف الاستعداد لحب الجيش ولاستبعاد صورته كأداة للقمع. بهذا انعقدت المصالحة مجدداً مع الإيديولوجيا الشعبية الجامعة، موفرةً لنا الكثير من الألفة مع أنفسنا كما نعهدها. وفعلاً أراحنا هذا وطمأننا إلى أننا لن نتغير كثيراً ولن نحيد عما رسمه السلف الصالح. ومجدداً علت الدعوات الوطنية البسيطة عن «جيشنا»، ثم جاء انتخاب «الإخواني» محمد مرسي رئيساً ليعزز الصورة المتوهمَة عن تعالي الجيش وعن كونه ملاكاً حارساً لنا جميعاً. هكذا استمرت الحال إلى أن أطيح مرسي ثم كانت رئاسة عبد الفتاح السيسي بنسبة تقارب الـ97 في المئة، وبين هذا الحدث وذاك استعيدت وجوه مباركية إلى الصدارة. ولما مزج السيسي عبد الناصر بالسادات، وأوقفهما عن يمينه ويساره، اندثر كل تعريف سياسي أو إيديولوجي له ولحركته فلم يتبق إلا التعريف العسكري البحت.
وهذا جميعاً لن يترك لأي ثورة مقبلة أن تكون حيادية حيال الجيش، كي لا نقول ودية، ناهيك عن أن الجيش، وقد استقرت السلطة بين يديه، سيجد نفسه حُكماً في موقع محدد يصعب إسباغ الحياد أو التعالي عليه.
ولئن بدا مفهوماً، في سورية، أن «تخرج الثورة من الجوامع»، لأن الأماكن الأخرى مسدودة كلها في وجه السوريين، لم يكن مفهوماً ولا مقبولاً أن ترتفع رايات «داعش» و «النصرة» و «أحرار الشام» و «جيش الإسلام» وسواها باسم نصرة الجامع. هكذا، وفي مواجهة ارتكابات تلك التنظيمات، بات يستحيل الفصل بين مقاتلة النظام القمعي ومقاتلة التنظيمات الدينية، بل لم يعد ممكناً المضي في غض النظر باسم «وحدة» الشعب في مواجهة النظام. فوق هذا، أفضى الفرز في الواقع إلى ميل متعاظم للفرز في التاريخ والتراث الديني، ميلٍ يتجرأ على الخرافات الغيبية القاتلة ويرى فيها سنداً موضوعياً لنظام قاتل يسمي نفسه علمانياً.
وكانت مصر، مع رئاسة مرسي، قد أوضحت أن «الإسلام هو الحل»، ما لا يُغني عن التفكير في الإسلام كما لا يُغني عن التفكير في الحلول.
وحين نرفع عنا التمويه الذي تنشره الإيديولوجيات القومية والوطنية وإيديولوجيات الإجماع الشعبي على عمومها، نكون نضيف إلى الانقسام الوعي به. وهذه نقلة مهمة باتجاه الوضوح، علماً بأن اتضاح الأمور قد لا يجعلها بالضرورة أسهل.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

وضوح ما بعد الثورات وضوح ما بعد الثورات



GMT 18:40 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

أسقط الركن الثالث

GMT 18:39 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

بين القوانين والإعلانات والأخلاق

GMT 18:38 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

عام «سَوْقَنَة» القضايا

GMT 18:37 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

البراغماتية الإيرانية في انتظار الاختبار الصعب

GMT 18:18 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

2026... عام التوضيحات؟

GMT 18:14 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

العراق ما بين تاريخين

GMT 18:13 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

يحمل اسم زويل

GMT 18:12 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

هند رستم.. الأنوثة قبل الإغراء دائمًا!

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 18:08 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

نتنياهو يعلن اعتراف إسرائيل بأرض الصومال دولة مستقلة
 لبنان اليوم - نتنياهو يعلن اعتراف إسرائيل بأرض الصومال دولة مستقلة

GMT 17:24 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

الجيش اللبناني يستعد للمرحلة الثانية من حصر السلاح
 لبنان اليوم - الجيش اللبناني يستعد للمرحلة الثانية من حصر السلاح

GMT 12:50 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الثور الأحد 1 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 11:49 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

من المستحسن أن تحرص على تنفيذ مخطّطاتك

GMT 22:30 2021 الأحد ,10 كانون الثاني / يناير

يشير هذا اليوم إلى بعض الفرص المهنية الآتية إليك

GMT 22:08 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج القوس الأحد 1 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 12:17 2020 الثلاثاء ,02 حزيران / يونيو

كن قوي العزيمة ولا تضعف أمام المغريات

GMT 13:08 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج السرطان الأحد 1 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 21:05 2021 الأحد ,10 كانون الثاني / يناير

تطرأ مسؤوليات ملحّة ومهمّة تسلّط الأضواء على مهارتك

GMT 05:03 2022 الأربعاء ,06 تموز / يوليو

أفكار بسيطة في الديكور لجلسات خارجية جذّابة

GMT 19:23 2021 الجمعة ,16 تموز / يوليو

حريق كبير في بينو العكارية اللبنانية
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon