عن الجثث والمتاحف وبعض أحوالنا

عن الجثث والمتاحف وبعض أحوالنا...

عن الجثث والمتاحف وبعض أحوالنا...

 لبنان اليوم -

عن الجثث والمتاحف وبعض أحوالنا

بقلم:حازم صاغية

تتحرّك منطقة المشرق العربيّ، بمعناها الأعرض الذي يشمل مصر، في اتّجاهات متضاربة عدّة. فما إن توقّف إطلاق النار في غزّة حتّى تصدّرت «الجثث» العناوين. فعَدُّ الجثث وإعادتها وفحصها والتأكّد من مطابقتها، فضلاً عن انتشال بعضها من تحت الركام، غدت تستقطب من الاهتمام والتعليق أكثر ممّا يستقطبه وضع القطاع والسياسات الإسرائيليّة والفلسطينيّة في المرحلة المقبلة. ويكاد تصدّر الجثث هذا، بما يملكه من غنى رمزيّ، ومن دلالات، يعرّف بالمنطقة، أو أقلّه بوجه أساسيّ، كالح ومأسويّ، من وجوهها.

فحرب غزّة، ابتداء بعمليّة «حماس» في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وتتويجاً بالإبادة الإسرائيليّة، استعراضٌ هائل لحبّ الجثث ولنزعة مَوْتيّة طاغية، فاقمهما انحسار السياسة عن تلك الحرب. ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت الحلول، كما ترعاها الأطراف الخارجيّة، سوف تحتلّ موقع قدم صلباً وتستقرّ في غزّة المعنّفة. فإذا كانت السياسة شاغلاً حياتيّاً، وطريقاً سلميّة إلى الحياة، وما دامت الجثث، في المقابل، من علامات النهاية والتحلّل، جاز القول إنّ انتصار الموت على الحياة مطروح بقوّة على جدول أعمال المنطقة.

وثمّة احتمال موت من نوع آخر وجّهه إلى لبنان المندوب الأميركيّ توم برّاك، على شكل إنذار. صحيح أنّ كثيرين، في العالم العربيّ كما في الولايات المتّحدة وأوروبا، يجادلون بشأن برّاك وما يصدر عنه من أقوال ملتبسة ومتناقضة وغريبة، كما يطعنون بمدى تمثيليّة تلك الأقوال. إلاّ أنّ أوضاع لبنان الراهنة تشجّع على حمل كلامه التحذيريّ، أو بعضه على الأقلّ، على محمل الجدّ.

فهو يعلن لبنان «دولة فاشلة»، ويشكّك بكثير من معطيات البلد ومن توافقاته واحتمالاته، فضلاً عن مؤسّساته وسياساته. وقد زاد الطين بلّة ذاك التزامن بين أقوال برّاك وتهديد وزير الدفاع الإسرائيليّ يسرائيل كاتس بضرب بيروت. وهو المعنى نفسه الذي ما لبث أن كرّره، بكلمات أخرى، رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير خارجيّته جدعون ساعر.

أمّا أحوال اللبنانيّين الذين يؤرّقهم «انتظار الضربة»، وسط شعور تامّ بالعجز، وانقسام من طينة انقسامات الحروب الأهليّة، فليست أحوالاً تُحسد الشعوب عليها.

لكنّ أفقنا في هذه المنطقة يسجّل انقلابات وتحوّلات قد يرى البعض فيها مدخلاً إلى خيارات من صنف آخر، أو إشارة إلى مدخل كهذا.

فافتتاح «المتحف المصريّ الكبير»، قبل أيّام، والذي ذكّر البعض بافتتاح قناة السويس عام 1869، يشي بوجهة أخرى لا تزال ممكنة في هذه المنطقة.

ذاك أنّ في وسع الأخيرة امتلاك تاريخ حضاريّ يقارع التاريخين السياسيّ والحربيّ. هكذا تثمر جهود كثيرين كوزير الثقافة السابق فاروق حسني، كما يتاح لبعض أفكار حملها مصريّون كبار، كأحمد لطفي السيّد وطه حسين وتوفيق الحكيم ولويس عوض وفؤاد زكريّا وسواهم، أن تعثر على بعض ترجمتها.

فبدل تلخيص البلدان إلى ساحات قتال، يوسّع المتحف الجديد موقع مصر على خريطة العالم، وبدل الخطط التي تسجن شعوبها في بُعد واحد شديد الضيق، نجدنا أمام مشروع ذي أبعاد ثقافيّة وتربويّة واستثماريّة وسياحيّة...

وليس قليل الدلالة، في ظلّ الأوضاع المتجهّمة التي نعيشها، أن يُقدَّم التاريخ القديم بوصفه مصدراً للتقارب بين الشعوب والحضارات، ضدّاً على تقديمه حقلاً للحروب والكراهيّات، وأن يصار إلى التركيز على السلام إن لم يكن حبّاً به فمن قبيل الإقرار باستحالة الحروب وبكارثيّتها. هكذا رحّبت القاهرة بالضيوف القادمين من مختلف دول العالم بلافتة مضيئة حملت بالإنجليزيّة عبارة Welcome to the Land of Peace .

وفي بيان بالمناسبة نفسها أوضح «مرصد الأزهر لمكافحة التطرّف» أنّ افتتاح هذا الصرح يُبرهن على أن السلام أساس الازدهار والاستقرار، وأنّ الحضارات لا تُشيَّد إلاّ على أرضٍ آمنةٍ تتّسع للجميع. فالمتحف الجديد، بحسب البيان، لا يقتصر على عرض الآثار «بل هو رسالة مصريّة متجدّدة إلى العالم تؤكّد أنّ حماية التراث الإنسانيّ جزء من رسالة السلام العالميّة».

والحال أنّ من الصعب التعامل مع الحدث هذا خارج سياق أعرض يفيد بضمور الإسلام السياسيّ، لا كحركة نضاليّة متعصّبة ونافية للآخر فحسب، بل أيضاً كمدرسة في قراءة التاريخ. فهذا الأخير، عندها، ليس مجرّد ساحة مفتوحة لصراع أبديّ، بل هو أيضاً جسد مبتور عن رأسه أو رأس مبتور عن جسده، يكتفي بحضارة وهويّة واحدتين عن سائر الحضارات والهويّات.

لقد احتلّ المتحف الجديد رقعة تقع إلى الشمال من إبادة تحصل في السودان، وإلى الغرب من إبادة أخرى تحصل في غزّة. وفي المعنى هذا نراه ينطوي على رحابة إنسانيّة وتعدّديّة تناهض توحّش التسييس الذي هو بديل حربيّ عن السياسة، وإشارة إلى غد ممكن يصارع اليوم والأمس.

أمّا الملاحظات السياسيّة والفنّيّة وأسعار تذاكر الدخول وسواها فتبقى، بقياس العمل الملحميّ، تفاصيل ثانويّة. فبعد كلّ حساب، إذا كانت الحروب تحيل الأحياء جثثاً، فالمتاحف هي، بمعنى ما، تحيي الجثث إذ تستخلص منها الحياة التي كانت فيها. وهو ما يصحّ خصوصاً حين يتعلّق الأمر بحضارة كالحضارة الفرعونيّة العظيمة.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن الجثث والمتاحف وبعض أحوالنا عن الجثث والمتاحف وبعض أحوالنا



GMT 18:25 2025 الإثنين ,22 كانون الأول / ديسمبر

نهاية حزينة لشارع الحمرا…

GMT 18:24 2025 الإثنين ,22 كانون الأول / ديسمبر

القلعة الجوفاء: بعدما هدأ غبار الهجوم على إيران

GMT 18:23 2025 الإثنين ,22 كانون الأول / ديسمبر

«الست» أيضاً

GMT 18:22 2025 الإثنين ,22 كانون الأول / ديسمبر

تغيير الحدود ومواعيد نتنياهو

GMT 18:21 2025 الإثنين ,22 كانون الأول / ديسمبر

هل «الموديل» الغربي مُقدّس؟

GMT 18:19 2025 الإثنين ,22 كانون الأول / ديسمبر

تعقيدات الهُويَّة وأنثروبولوجيا إسلام الخارج

GMT 18:16 2025 الإثنين ,22 كانون الأول / ديسمبر

تعقيدات الهُويَّة وأنثروبولوجيا إسلام الخارج

GMT 18:15 2025 الإثنين ,22 كانون الأول / ديسمبر

لبنان وغزة... إدارة النزاع بدل إنهائه

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 16:44 2025 الإثنين ,22 كانون الأول / ديسمبر

الجيش الإسرائيلي يعلن تحييد "عنصرين" في "حزب الله" اللبناني
 لبنان اليوم - الجيش الإسرائيلي يعلن تحييد "عنصرين" في "حزب الله" اللبناني

GMT 17:29 2025 الإثنين ,22 كانون الأول / ديسمبر

إهمال صحة اللثة قد يُزيد خطر أمراض القلب والسكتات الدماغية
 لبنان اليوم - إهمال صحة اللثة قد يُزيد خطر أمراض القلب والسكتات الدماغية
 لبنان اليوم - تسلا تواجه انتقادات بعد وفيات ناجمة عن أعطال أبواب السيارات

GMT 17:50 2025 الإثنين ,22 كانون الأول / ديسمبر

نانسي بيلوسي تعتبر خطاب ترمب دليلا على عدم أهليته العقلية
 لبنان اليوم - نانسي بيلوسي تعتبر خطاب ترمب دليلا على عدم أهليته العقلية

GMT 15:01 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

احذر التدخل في شؤون الآخرين

GMT 14:56 2020 الثلاثاء ,22 كانون الأول / ديسمبر

سندس القطان بإطلالات مقلمة ناعمة ورائعة على انستقرام

GMT 17:43 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

لاعب كونغولي يخطف الأنظار في مونديال اليد

GMT 01:35 2021 الإثنين ,25 كانون الثاني / يناير

وفاة 4 لاعبين ورئيس ناد بطريقة مأساوية في البرازيل

GMT 17:45 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

إليسا تنشر مشاهد لجمال لبنان وتعلق"خلينا ما بقى نسكت"

GMT 02:55 2018 الأربعاء ,06 حزيران / يونيو

7 حيل تجعل عطركِ يدوم طويلًا مهما كان نوعه

GMT 01:56 2020 الخميس ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

النساء يحقّقن اختراقات في انتخابات الكونغرس الأميركي

GMT 15:26 2020 الثلاثاء ,01 أيلول / سبتمبر

مقتل 3 أطفال وإصابة 4 بانفجار قارورة غاز في الهرمل

GMT 14:02 2019 السبت ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

قصة جديدة لفئة اليافعين بعنوان "لغز في المدينة"

GMT 18:16 2018 الإثنين ,02 إبريل / نيسان

أناقة زين مالك بعد أنفصاله عن جيجي حديد

GMT 14:09 2020 الإثنين ,28 كانون الأول / ديسمبر

رائدة ناسا "كيت روبينز" تحصد الفجل المزروع في الفضاء
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon