صهيونيّتان وإسرائيلان

صهيونيّتان وإسرائيلان؟!

صهيونيّتان وإسرائيلان؟!

 لبنان اليوم -

صهيونيّتان وإسرائيلان

بقلم:حازم صاغية

ما استخلصه بنيامين نتنياهو واليمينان الدينيّ والقوميّ الإسرائيليّان من عمليّة 7 أكتوبر أنّ القوّة هي الشيء الوحيد «الذي يفهمه العرب»، وأنّ العمليّة المذكورة فرصة وفّرتها «حركة حماس» لتطبيق هذا المبدأ. وهذا الاستخلاص ليس اكتشافاً من صفر بقدر ما هو توكيد لـ«صحّة» ما آمن به دائماً ذاك اليمين حول مركزيّة القوّة وأولويّتها.

ومؤخّراً، وفي محاولات لتأصيل نظرة نتنياهو، شاع التذكير بمقالة كتبها، في 1923، فلاديمير (زئيف) جابوتنسكي «عن الجدار الحديديّ»، هو الذي، بعد عامين، أسّس «الحركة التصحيحيّة» المنشقّة عن التيّار الصهيونيّ العريض لحاييم وايزمن وديفيد بن غوريون.

فالتصحيحيّون عبّروا عن مناخات راجت في شرق أوروبا وجنوبها، أكثر قوميّة وعنصريّة في الشرق وأكثر كاثوليكيّة في الجنوب. وهذه لم تُعدم الاستناد إلى أفكار سادت هناك ودارت حول مبدأ القوّة «المقدّسة». وبدورها بدت صهيونيّة المتن العريض أشدّ تعدّداً واختلاطاً في مصادرها حيث كانت الدعوات العمّاليّة والاشتراكيّة واحداً منها. وأهمّ من ذلك أنّ قضيّة دريفوس كانت الحدث المؤسّس لتلك الصهيونيّة، حين اتّهمت القوى اللاساميّة الفرنسيّة، القوميّة والدينيّة، ضابطاً يهوديّاً بريئاً بالتجسّس للألمان، فكان للتزوير هذا أن شقّ فرنسا جبهتين إيديولوجيّتين.

ومقالة جابوتنسكي، وقد سمّاها البعض «مانيفستو الاستيطان»، تنفي كلّ وهم حول نموذج السيطرة والتوسّع المرجوّين. ذاك أنّ «السكّان المحليّين»، متمدّنين كانوا أم غير متمدّنين، يعتبرون أنّ أرضهم وطنُهم ويقاتلون لذلك، ما يصحّ في العرب صحّته في سواهم.

فجابوتنسكي الروسيّ، على عكس البريطانيّ إسرائيل زنغويل صاحب نظريّة «شعب بلا أرض لأرض بلا شعب»، يقرّ بوجود سكّان في فلسطين لكنّه يحيل حسمه إلى القوّة التي تجتثّ كلّ أمل عند الخصم: فـ»كلّ الشعوب الأصليّة في العالم تقاوم المستعمرين طالما أنّ لديها أدنى أمل في التخلّص من خطر الاستعمار».

هكذا أخذ الكاتب على المؤسّسة الصهيونيّة تجاهلها الأغلبيّةَ العربيّة في فلسطين وتطلّعاتها، وانتقد اعتقادها «الخاطئ» بأنّ التقدّم التقنيّ وتحسّن الأوضاع الاقتصاديّة التي يُفترض أن يأتي بها اليهود إلى فلسطين يجعلان السكّان العرب يحبّونهم. فهؤلاء الصهاينة «يحاولون إقناعنا أنّ العرب هم إمّا بلهاء نستطيع خداعهم بتقنيع أهدافنا الحقيقيّة، أو أنّهم فاسدون يمكن رشوتهم كي يتخلّوا عن مطلبهم بأن تكون لهم الأولويّة في فلسطين، مقابل امتيازات ثقافيّة واقتصاديّة».

لقد آمن جابوتنسكي بأنّ الحركة الصهيونيّة ينبغي ألاّ تُهدر مواردها على أحلام طوباويّة، بل يجب أن ينصبّ تركيزها الحصريّ على بناء قوّة عسكريّة يهوديّة متفوّقة، أي على جدار حديديّ مجازيّ، يُجبر العرب على قبول دولة يهوديّة فوق أرضهم. ولمّا كان «من المستحيل تهجير السكّان الفلسطينيّين»، فإنّه «بمجرّد التخلّص من قيادتهم ومن مقاومتهم المسلّحة والقضاء على كلّ أمل لدى السكّان، يصير ممكناً التحدّث عن إعطاء مَن تبقّى منهم حقوقاً».

وكانت آراء جابوتنسكي تقوم على فرضيّة ساهم في بلورتها بنزيون نتانياهو، والد بنيامين ومؤرّخ تجربة اليهود في أسبانيا، والمناضل الصهيونيّ الذي عمل مساعداً لسكرتير جابوتنسكي. وتقول الفرضيّة الذعريّة تلك أنّ اللاساميّة ستستهدف اليهود بغضّ النظر عمّا يفعلون، وهي سوف تستهدفهم حتّى لو تحوّلوا إلى مسيحيّين. أمّا القول بنهاية اللاساميّة في أوروبا ففكرة حمقاء ووهم لا ينتج عنهما سوى تعريض حياة اليهود للخطر.

والراهن أنّنا هنا أمام واقعيّة من صنف الوعي الكئيب الذي دفعته كآبة التاريخ اليهوديّ إلى التشاؤم العميق بالبشر والعداء للتنوير في تفاؤله بالانسان وبالتاريخ كتقدّم يحدثه العلم والتقنيّة ومعهما تعاظم حقوق الأفراد الطبيعيّة. ففي قاموس جابوتنسكي قلّة ثقة بالبشر وبالسياسة والدبلوماسيّة والتفاوض ممّا لا فائدة منها إلاّ بعد إلحاق الهزيمة الماحقة بالعدوّ وفرض أمر واقع عليه. أمّا بناء المواقف على اشتراك الجماعات في نشاط علميّ أو ثقافيّ، أو في مصالح اقتصاديّة جامعة، فلا يستحقّ إلاّ الإزدراء.

وحتّى 1938 ظلّت إيطاليا الفاشيّة الحليف الأكبر لـ«الحركة التصحيحيّة» التي تبنّت حركتُها الشبابيّة «بيتار» رموز الفاشيّة الإيطاليّة وأزياءها وتحيّتها وبُنيتها شبه العسكريّة. وقد تبادل موسوليني وجابوتنسكي الرسائل التي تؤكّد على التوازي والتلازم بين الحركتين، توكيدها على إعجاب واحدهما بالثاني. ذاك أنّ وجود صهيونيّة فاشيّة في فلسطين هو، كما رأى الدوتشي، وجود لحليفٍ يناهض النفوذ البريطانيّ في المتوسّط.

وكان من ثمار علاقتهما إنشاء إيطاليا لـ«بيتار» أكاديميّةً بحريّة حيث تولّى ضبّاط إيطاليّون تدريب كوادرها. لكنّ هذا التعاون انتهى في 1938 حينما سنّ موسوليني، المتحالف مع هتلر، القوانين العرقيّة في بلده، نزولاً عند رغبة الحليف الأكبر بعدما غدا صاحب اليد الطولى في تحالفهما. هكذا طُرد من الحزب الفاشيّ كلّ الأعضاء اليهود وعُطّلت المؤسّسات اليهوديّة بما فيها الأكاديميّة البحريّة.

ولن يكون صعباً اكتشاف التركة الجابوتنسكيّة في نتنياهو المتمسّك بمبدأ السيطرة العسكريّة الدائمة وكراهية التفاوض ورفض الإقرار بأيّ حقّ للفلسطينيّين. لكنْ إذا صحّ أنّ التمييز بين الصهيونيّتين خسر اليوم الكثير من معناه، وهذا لأسباب لا تتّسع لها هذه العجالة، فالمؤكّد أنّ التذكير به يبقى مفيداً في عالم الهويّات المطلقة الراهن والذي يُصوّر كشيء خالد.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

صهيونيّتان وإسرائيلان صهيونيّتان وإسرائيلان



GMT 21:11 2025 الثلاثاء ,23 كانون الأول / ديسمبر

“حكومة التعريفة” ولغز النفط وتسعير مشتقاته

GMT 21:11 2025 الثلاثاء ,23 كانون الأول / ديسمبر

فستان الرَّئيس «السَّابق»

GMT 21:10 2025 الثلاثاء ,23 كانون الأول / ديسمبر

ذاكرة شفوية منقوشة في جدار الزمن

GMT 21:09 2025 الثلاثاء ,23 كانون الأول / ديسمبر

ذاكرة شفوية منقوشة في جدار الزمن

GMT 21:08 2025 الثلاثاء ,23 كانون الأول / ديسمبر

قانون «الفجوة» ومرتكبو الجرائم المالية!

GMT 21:07 2025 الثلاثاء ,23 كانون الأول / ديسمبر

أهداف إسرائيل وحسابات سوريا الجديدة

GMT 21:06 2025 الثلاثاء ,23 كانون الأول / ديسمبر

تعقيدات المفاوضات الأوكرانية

GMT 21:05 2025 الثلاثاء ,23 كانون الأول / ديسمبر

تغيير الخطاب وتعديل المسار

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 20:43 2025 الثلاثاء ,23 كانون الأول / ديسمبر

مأساة أم مصرية تشعل مواقع التواصل بعد عرض أطفالها للبيع
 لبنان اليوم - مأساة أم مصرية تشعل مواقع التواصل بعد عرض أطفالها للبيع

GMT 21:44 2017 الأحد ,10 أيلول / سبتمبر

كيف تتحكمين في صرخات طفلك المحرجة؟

GMT 22:16 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الدلو الأحد 1 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 12:50 2025 الثلاثاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

ألوان الموضة لخريف وشتاء 2026 توازن بين الأصالة والابتكار

GMT 14:56 2023 السبت ,07 كانون الثاني / يناير

الطبابة في حوض الفولغا

GMT 09:27 2015 الثلاثاء ,14 إبريل / نيسان

موقع صحيفة "الحياة" يتعرض إلى القرصنة

GMT 12:39 2015 الجمعة ,09 تشرين الأول / أكتوبر

الأخطبوط يلجأ إلى حيل مثيرة للدهشة للإيقاع بالفريسة

GMT 07:35 2020 الجمعة ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

توماس باخ يؤكد أنهم مستعدون لإقامة أولمبياد طوكيو

GMT 22:11 2020 الثلاثاء ,29 كانون الأول / ديسمبر

دليل تنظيف اللابتوب

GMT 22:18 2018 الجمعة ,02 شباط / فبراير

فالنتينو تخطف الأنظار بمجموعتها لموسم 2018

GMT 09:01 2022 الأحد ,03 تموز / يوليو

ماجد المصري ينتهي من تصوير فيلم خمس جولات
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon