الواقعية والغباوة فى مقابل الحلم

الواقعية والغباوة فى مقابل الحلم

الواقعية والغباوة فى مقابل الحلم

 لبنان اليوم -

الواقعية والغباوة فى مقابل الحلم

بقلم:أسامة غريب

منذ سنوات طويلة حين وصلتنى رسالة بالبريد الإلكترونى يطلب صاحبها نسخة من كتابى الأول الذى ذاع صيته فى ذاك الوقت فإننى تأثرت لأن صاحب الرسالة الطالب الجامعى كان يرغب فى قراءة كتابى، لكن ميزانيته لا تسمح بشرائه. فهمت من الرسالة أن هذا الشاب من قرائى المخلصين الذين يتنقلون معى حيثما كتبت ويحرص على شراء الجريدة أو المجلة من مصروفه القليل. بعدها أدهشنى أننى تلقيت رسائل مماثلة من قراء آخرين من أماكن عديدة بالقُطر تكرر نفس الطلب وتسوق نفس الأسباب. من الواضح كما قال أحد أصدقائى أننى أصبحت بتاع الغلابة، وأن هؤلاء الغلابة يشكلون أغلبية قرائى. قلت للصديق إن الغلابة هم القراء عمومًا، لى ولغيرى، ذلك أن الناس المتريشين فى بلدنا يتعاطون الكباب والكفتة لا الكتب!
ما زلت أذكر أن رسائل القراء الفقراء الذين طلبوا نسخة مجانية قد أثرت فىّ تأثيرًا كبيرًا لدرجة أننى قررت القيام بجولة بصحبة ذلك الصديق، أمر فيها على عناوين بعض الإخوة الذين طلب كل منهم نسخة من الكتاب كهدية، وهكذا بدلا من إرسال الكتاب بالبريد ذهبت بنفسى إلى الذين استشعرت من رسائلهم المحبة، وقدّرت رغبتهم فى القراءة لى.. تنقلت ما بين مناطق القاهرة المختلفة من الإمام الشافعى إلى شبرا الخيمة إلى السكاكينى فعزبة النخل ثم حلوان. قمت بهذه المشاوير يدفعنى الود والرغبة فى ردّ الجميل لمن شرفونى بمتابعتى والتواصل معى.
أذكر أيضا الرسائل التى أتت من الصعيد حيث كانت الشكوى هى عدم وجود مكتبات تعرض الكتاب، ويبدو أن هذه الحقيقة قد أعفتهم من ذكر السبب الأساسى وهو ضيق ذات اليد، وبالنسبة لهؤلاء لم أتردد فى الذهاب إلى مكتب البريد القريب وإرسال نسخة من الكتاب لكل منهم.
فيما تلى ذلك من سنوات صدر لى ثمانية عشر كتابًا آخر، لكنى لم أكرر تجربة توصيل الكتاب لمحبى القراءة المفلسين. توقفت عن ذلك ولم تعد تحركنى حرارة الرسائل أو حميميتها.. جائز لأننى نضجت بعض الشىء وذهبت عنى السكرة الرومانسية التى صاحبت الكتاب الأول والخاصة بالتواصل مع القراء والتعاطف مع الناس عموما. صحيح لم أفقد الحس الإنسانى تمامًا، لكنى أصبحت أكثر تحفظًا فى الاستجابة لرسائل من هذا النوع. أما السبب الحقيقى بخلاف اعتناق الواقعية فكان أنّ الذين تجشمت عناء الذهاب لهم والبحث عن مساكنهم بين الأزقة والدروب استقبلوا فى معظمهم مبادرتى بفتور. كنت أشعر أننى أقوم بعمل له شأنه وأتوقع السعادة التى سأراها مرتسمة على الوجوه المتفاجئة، غير أن ردود الفعل إجمالًا كانت مربكة ومحبطة. أحدهم بعد أن قدّمتُ له نفسى أمسك بالكتاب ثم أخذ يقلبه ويعيد النظر بينى وبينه ثم قال لى شكرا وأغلق الباب!. وآخر تهلل فرحًا فى البداية لكنه استدرك بعد الشكر وبدأ ينظر لى فى شك وكأنه يرى كائنًا فضائيًا، ثم سألنى إذا كان معى كارنيه أو بطاقة تثبت شخصيتى! سألته فى حسرة: هل أنا طلبت منك أن تتبرع لمعونة الشتاء حتى تطلب منى إثبات شخصية؟ وشخص ثالث طرقت بابه عندما كان والده يكبس له مكان الإصابة بالبُن بعد أن شُج رأسه فى خناقة فى الحارة، وأبوه قال لى: اتوكل على الله.. مش ناقصين وجع دماغ!. ورابع سألنى فى جرأة: ممكن أعرف لماذا لم ترسله فى البوسطة؟ هل تحاول إقناع نفسك بأنك الكاتب البسيط المتواضع الذى يتصرف بعفوية مع الناس؟. لم أفهم ساعتها ما كل هذا الغل وهذه العدوانية مع شخص استجاب لرجائك بلطفٍ لم يعد موجودا فى هذا الكون؟ وخامس تسلمت أمه الكتاب فى غيابه ثم لم يكلف نفسه عناء الاتصال والشكر. أصابتنى هذه المواقف باكتئاب وتساءلت بينى وبين نفسى عن شعورى لو أن طه حسين أو يحيى حقى طرق بابى فى الصغر وأهدانى كتابًا.. لا أقول إننى فى قامة هؤلاء، لكنى أتحدث عن مبدعين أحبهم.
أصابتنى هذه التصرفات بصدمة فأوقفت باقى عملية التوزيع حتى أجنّب نفسى مزيدا من الخيبات، ومع ذلك فى مرحلة تالية كنت أرسل الكتاب بالبريد فى أضيق نطاق لمن تعجبنى رسالته وأجدها خالية من الأخطاء الإملائية الشنيعة. لكن بمرور الوقت توقفت تمامًا عن هذه التصرفات ولم أعد أعتبر نفسى مندوب العناية الإلهية لإسعاد الفقراء التواقين للقراءة، ورأيت أن توزيع سندوتشات كبدة أجدى بكثير من حيث المردود الفورى الذى يأتى على شكل ابتسامات ممتنة لا ينظر صاحبها لك على أنك كاتب مجنون أو مختل نفسيًا، ترك صومعته ونزل ليهدى كتابه لعيّل صغير! الخلاصة أننى أحسست كم هبطتُ بقيمة كتابى عندما تصرفت ببساطة وحملته بنفسى لأناس طلبوه فى رجاء ومع هذا تلقوه باستخفاف! وهناك سبب إضافى أكثر وجاهة هو أننى أصبحت أكثر تواضعًا فيما يتعلق بتقييمى لنفسى وما أكتب، إذ لم أعد أعتبر من فاته قراءة مقالى أو روايتى قد فاته شىء، بالعكس ربما يكون قد نجا من التشوش الذى تحدثه القراءة لمن تتغير رؤيته للحياة من وقتٍ لآخر مثلى.. ليس هذا فقط، بل إننى توقفت عن وضع البريد الإلكترونى داخل الكتب وأسفل المقالات بعدما أصبح التواصل فى الغالب لا يجلب سوى المناقشات البيزنطية وضياع الوقت والصداع المزمن.. فضلا عن شىء آخر مهم أحب أن أذكره وهو أن القارئ الذى لا يراك ولا يتصل بك ولا يعرف شكلك قد يتصور أن لك طلة وليم شكسبير ورصانة جورج أورويل وسحر باولو كويلو.. ومن الأفضل أن تتركه على حاله!

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الواقعية والغباوة فى مقابل الحلم الواقعية والغباوة فى مقابل الحلم



GMT 14:58 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

عقليّة الغلبة دمّرت لبنان

GMT 14:32 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

محارق

GMT 14:31 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

صورة المسلم بين عائلتين

GMT 14:30 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

حزب البعث اللبناني: أهمية ما ليس مهماً

GMT 14:29 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

جوع وصقيع وفزع

GMT 14:29 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

أبواب دمشق

GMT 14:28 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

«كايسيد»... الحوار هو الخيار

GMT 14:26 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا والحوار المهيكل

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 09:23 2020 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

أعد النظر في طريقة تعاطيك مع الزملاء في العمل

GMT 06:50 2016 الجمعة ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

زلزال نيوزيلندا العنيف يتسبب في تحريك جزر رئيسية

GMT 22:25 2019 الثلاثاء ,16 إبريل / نيسان

3مستحضرات فقط تخفي علامات تعب وجهك نهائيا

GMT 18:35 2019 الخميس ,18 تموز / يوليو

5 أسرار لتطبيق المكياج من أجمل نساء بريطانيا

GMT 16:57 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

"موريشيوس" ملاذ رومانسي ساحر لقضاء شهر العسل

GMT 13:05 2012 الإثنين ,03 كانون الأول / ديسمبر

إضراب في مطار شرم الشيخ يتسبب في إغلاق جزئي أمام السياح

GMT 04:44 2018 الجمعة ,09 شباط / فبراير

لاكوتريبيس يعلن اكتشاف حقل غاز على سواحل قبرص

GMT 18:00 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

إتيكيت دفع فاتورة حساب المطعم

GMT 10:31 2013 الجمعة ,23 آب / أغسطس

نظافة المدرسة من نظافة الطلاب والمدرسين

GMT 07:27 2014 الثلاثاء ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

جائزة لـ«فقه العمران»

GMT 21:14 2019 الأربعاء ,03 إبريل / نيسان

تعرف علي توقعات أحوال الطقس في لبنان الاربعاء

GMT 18:27 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

انفجار في مدينة بنش في ريف إدلب السورية

GMT 00:31 2021 السبت ,13 آذار/ مارس

تخفيض سعر تعرفة فحص الـPCR الى 100 الف ل.ل!
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon