أحلام وأوهام

أحلام وأوهام

أحلام وأوهام

 لبنان اليوم -

أحلام وأوهام

مصطفى الفقي

عندما أصدرت كتابى «تجديد الفكر القومى» فى مطلع تسعينيات القرن الماضى، وطرحت فيه رؤيتى للمفهوم المعاصر لقضية الوحدة العربية، استقبل القوميون فى الوطن العربى ذلك الكتاب بحفاوة بالغة، ونشر الصديق د. «عمرو عبدالسميع» الكتاب قبل صدوره على سلسلة من المقالات فى جريدة «الحياة اللندنية» التى كان هو مديراًَ لمكتبها فى «القاهرة»، ولقد حاولت أن أخرج فى ذلك الكتاب بالروح العصرية لمفهوم الوحدة بعيداً عن أوهام العاطفة التى تدفع الإنسان إلى أن يتصور أموراً تريحه عندما يتخيلها ولكنها مستحيلة التطبيق. ولقد قال لى البعض وقتها إن الوحدة العربية قد تحولت من حلم إلى وهم وليس من المقبول أن نجد شخصاًِ عارياً فنشترى له «رابطة عنق» بدلاً أن نكسوه أولاً ونجعله فى الشكل المناسب، فالعرب محتاجون إلى حد أدنى من التنسيق السياسى فضلاً عن التكامل الاقتصادى أو الحشد العسكرى، إذ إن الواقع يقول إن الأحلام البعيدة تبدو كالأوهام القريبة، لذلك عكفت عبر السنين على محاولة تأصيل طرح عصرى لمفهوم الأمة العربية بتراثها التاريخى ووضعها الجغرافى وتركيبها السكانى، وجعلت للعامل الثقافى القدح المعلى فى قيادة قاطرة المفهوم القومى للعروبة، فأنا ممن يظنون أن الثقافة هى «المتغير المستقل» فى تكوين التشابه بين البشر وتكوين التجانس بين الشعوب، أما العوامل الأخرى ومنها العقيدة الدينية فإنها تدخل فى بند «المتغيرات التابعة» إذ إن اللغة الواحدة هى وعاء الثقافة المشتركة التى يستندِ إليها المفهوم العصرى للوحدة، وإذا كنا نثمن عالياً دور العامل الثقافى فى العلاقات الدولية فإننا نعطيه أيضاً دوراً ريادياً فى إطار القومية. إننا أحوج ما نكون ـ عرباً ومصريين ـ إلى الخروج من دائرة الأوهام إلى مربع الأحلام، إذ إن الواقع العملى هو المؤشر الرشيد لفهم الحياة وتحولاتها والتغيرات التى تطرأ عليها، ولعلنا نطرح فى هذا السياق الملاحظات التالية:

أولاً: إن الأمم الشرقية بطبيعتها حالمة تعيش مع أصداء تراثها وتسعى دوماً إلى الاحتماء بمظلة تاريخية تجعلها مستغرقة فى الماضى أكثر من انغماسها فى الحاضر أو تطلعها إلى المستقبل، وهنا يجب أن نذكر الجميع بأن الشعوب الحالمة تراجعت وسبقتها شعوب أخرى أكثر اندماجاً فى روح العصر ومواكبة لإيقاعه السريع، بينما نحن العرب مازلنا نردد أشعار «دواوين الحماسة» ونتصور أننا خير أمة أخرجت للناس، ونتوهم أن المشاعر تكفى وأن حسن النوايا كفيل بتحقيق الأحلام وبلوغ الغايات.

ثانياً: إن أحلام اليقظة جزء من المكون الإنسانى الطبيعى بل إن «الحق فى الخيال» هو من أرفع الحقوق وأهمها، لأنه هو الذى يصنع الرؤية ويستشرف المستقبل بحيث نرى من منظوره ما يمكن أن يتحقق، وإذا كنا قد اعتبرنا أن «الفلسفة» هى أم العلوم فإننا نظن أيضاً أن الخيال الخصب هو القادر على فهم الحقائق، إذ إن معظم الاختراعات الكبرى والاكتشافات المثيرة بدأت خيالاً لدى أصحابها، ثم تحولت بعد ذلك إلى واقع استفادت منه البشرية وحققت به جزءاً كبيراً من أحلامها التى كانت تبدو فى البداية وكأنها شى غريب غير قابل للتطبيق بل عصىّ على الفهم المحدود، واضعين فى الاعتبار أن النظريات الكبرى مثل «الماركسية» و«الداروينية» و«الفرويدية» قد بدأت كلها خيالاً مبدئيا لدى أصحابها ثم تحولت بعد ذلك إلى نظريات راسخة فى الفكر الإنسانى بغض النظر عن قبول بعضها أو رفض البعض الآخر، بل إن كثيراً من الفلاسفة العظام والمفكرين الكبار قد دفعوا حياتهم ثمناً لأفكار بدت غريبة فى وقتها بدءاً من «أرسطو» وصولاً إلى صاحب أحدث رأى حر قد لا يقبله الناس، إذ إن الفكر الشجاع مطارد فى عصره مرفوض فى بدايته ولكن قيمته الحقيقية تكمن فى أنه حلم وليس وهماً، فالحلم مقدمة الحقيقة بينما الوهم هو خطوة على طريق الانفلات الفكرى بل التوازن العقلى.

ثالثاً: إن المشهد المصرى الراهن يشير بوضوح إلى إمكانية انتقالنا من شاطئ الأحلام إلى واقع الأمان الذى نتطلع إليه والمجتمع الذى ننشده، لأن الصدمات التى تلقاها الإنسان المصرى فى السنوات اِلأخيرة قد خبرت معدنه وصقلت تكوينه وهو يرى الأشياء الكبيرة تتهاوى والأسماء الضخمة تتوارى، ألم ير رئيسين فى قفص الاتهام أمام المحاكم خلال السنوات القليلة الماضية؟، ألم يسقط حاجز الخوف نهائياً؟، إن ذلك المصرى يولد من جديد، وإن «مصر الغد» سوف تكون أفضل من «مصر الأمس واليوم» بشرط ألا نستسلم للمذاق الحلو لأحلام اليقظة، بل نعيش فى الواقع كما نراه ونتهيأ للمستقبل كما نريده، وعلى سبيل المثال فإن إنشاء عاصمة إدارية للبلاد لا يمكن أن يكون قراراً مفاجئاً خصوصاً من حيث الموقع الجديد على خريطة الوطن، وهو أمر لابد للمؤرخين والجغرافيين وأساتذة علم السكان وخبراء الاجتماع والتنمية من أن يكون لهم رأى فيه، وهى بالمناسبة مسألة مصرية حتى لو شاركت فيها خبرات عربية أو أجنبية.

هذه ملاحظات أردنا بها أن نقول إن «الفلاشات المضيئة» هى أقرب «لثقافة المهرجانات» التى تسعد الناس أياماً ولكنها قد لا تستطيع بناء مستقبل راسخ يقوم على أسس متينة ودعائم قوية، وأحسب أن رئيس البلاد واقعى بتكوينه عملى بفطرته، يقتحم المشكلات ولا يدور حولها، وهذا هو الفارق الذى لا يخفى على كل ذى بصيرة بين الوهم والحلم، بين الخيال والواقع، بين ما نريده وما يمكن أن نحققه.

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أحلام وأوهام أحلام وأوهام



GMT 18:25 2025 الإثنين ,22 كانون الأول / ديسمبر

نهاية حزينة لشارع الحمرا…

GMT 18:24 2025 الإثنين ,22 كانون الأول / ديسمبر

القلعة الجوفاء: بعدما هدأ غبار الهجوم على إيران

GMT 18:23 2025 الإثنين ,22 كانون الأول / ديسمبر

«الست» أيضاً

GMT 18:22 2025 الإثنين ,22 كانون الأول / ديسمبر

تغيير الحدود ومواعيد نتنياهو

GMT 18:21 2025 الإثنين ,22 كانون الأول / ديسمبر

هل «الموديل» الغربي مُقدّس؟

GMT 18:19 2025 الإثنين ,22 كانون الأول / ديسمبر

تعقيدات الهُويَّة وأنثروبولوجيا إسلام الخارج

GMT 18:16 2025 الإثنين ,22 كانون الأول / ديسمبر

تعقيدات الهُويَّة وأنثروبولوجيا إسلام الخارج

GMT 18:15 2025 الإثنين ,22 كانون الأول / ديسمبر

لبنان وغزة... إدارة النزاع بدل إنهائه

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 16:44 2025 الإثنين ,22 كانون الأول / ديسمبر

الجيش الإسرائيلي يعلن تحييد "عنصرين" في "حزب الله" اللبناني
 لبنان اليوم - الجيش الإسرائيلي يعلن تحييد "عنصرين" في "حزب الله" اللبناني

GMT 15:01 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

احذر التدخل في شؤون الآخرين

GMT 14:56 2020 الثلاثاء ,22 كانون الأول / ديسمبر

سندس القطان بإطلالات مقلمة ناعمة ورائعة على انستقرام

GMT 17:43 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

لاعب كونغولي يخطف الأنظار في مونديال اليد

GMT 01:35 2021 الإثنين ,25 كانون الثاني / يناير

وفاة 4 لاعبين ورئيس ناد بطريقة مأساوية في البرازيل

GMT 17:45 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

إليسا تنشر مشاهد لجمال لبنان وتعلق"خلينا ما بقى نسكت"

GMT 02:55 2018 الأربعاء ,06 حزيران / يونيو

7 حيل تجعل عطركِ يدوم طويلًا مهما كان نوعه

GMT 01:56 2020 الخميس ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

النساء يحقّقن اختراقات في انتخابات الكونغرس الأميركي
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon