عن تحرير مفهوم التحرّر

... عن تحرير مفهوم التحرّر!

... عن تحرير مفهوم التحرّر!

 لبنان اليوم -

 عن تحرير مفهوم التحرّر

بقلم : حازم صاغية

هل هناك فارق، في طريقة حكم بلد ما، بين حاكم سبق أن قاوم الاستعمار ونال الاستقلال بالقوّة، وحاكمٍ لاطفَ الاستعمار حتّى عُدّ، في نظر البعض، «عميلاً للاستعمار»؟
رحيل عبد العزيز بوتفليقة، قبل أيّام، يبعث على التأمّل في بعض أحوال السياسة في منطقتنا، وعلى التوقّف عند بعض المعاني والمفاهيم، لا سيّما السؤال أعلاه.
فالرئيس الجزائريّ السابق بدأ حياته العامّة شابّاً مناضلاً في «جبهة التحرير الوطنيّ الجزائريّة»، ثمّ اشتُهر، إبّان العهد المديد للرئيس هواري بومدين، بكونه وزير خارجيّته. وبصفته هذه، نُظر إلى بوتفليقة كـ «ديبلوماسيّ الثورة»، شبابُه يحاكي شبابها وحماسته صدى لحماستها. وغالباً ما قيل أنّه فيما كان ينقل صوت الجزائر المستقلّة إلى العالم، كان ينقل أيضاً صوت «العالم الثالث» الذي حاولت الجزائر تزعّمه في تطلعاته الاستقلاليّة، كما في امتلاكه موادّه الأوليّة وثرواته الوطنيّة. لكنْ في الداخل كان بوتفليقة أحد أعمدة النظام الذي انبثقت منه ديكتاتوريّة عسكريّة وعبادة للشخصيّة أمعنتا في تعطيل الحياة السياسيّة.
وفي النهر مرّت مياه كثيرة، فتوفّي بومدين واندلعت الحرب الأهليّة التسعينيّة وتعرّجت أشكالها، إلى أن استقرّ بوتفليقة في سدّة الرئاسة. لكنّ الشابّ الذي حرّكته المثالات الثوريّة انتهى به الأمر إلى رئاسة أرادها، مثله مثل أستاذه بومدين، خالدة لنفسه، لا يحول دون استمراره فيها غيابُه عن الوعي في السنوات الأخيرة من تولّيه الحكم. لقد قضى في سدّة الرئاسة عشرين سنة ما بين 1999 و2019 وتردّد أنّه نَوى أن يموت رئيساً، أمّا عهوده المديدة فشابَها فسادٌ فلكيّ، بالعائليّ منه وغير العائليّ. هكذا اندلعت ثورة جزائريّة ثانية في وجه أحد رموز الثورة الجزائريّة الأولى، وبالنتيجة أزيح بوتفليقة عن عرشه وأقصي عن المشهد العامّ.
هذا الاستعراض السريع معروف ولا يأتي بجديد. لكنّ ما يهمّ هنا هو التالي: أن تحارب الاستعمار أو أن لا تحاربه فذلك لا يعني الكثير على صعيد بناء الوطن، ولا يُحدث فارقاً ملحوظاً في حكمه وبنائه. وما يصحّ في الاستعمار يصحّ في الإمبرياليّة والعنصريّة والاحتلال والرجعيّة إلخ...
ذاك أنّ ما يمكن أن يقال عن بوتفليقة يمكن قوله عن كثيرين كان آخرهم جاكوب زوما، المناضل ضدّ نظام التمييز العنصريّ في جنوب أفريقيا، والذي شارك نيلسون مانديلاّ وباقي رفاقه نضالهم وسجنهم في روبِّن آيلاند، فحينما تولّى الرئاسة الرابعة في بلده تكشّف عهده عن فساد مريع.
بمعنى آخر، أيّ جدارة بالحاكميّة يخلقها النضال ضدّ الاستعمار الذي تشهد عليه سيرتا بوتفليقة وزوما وكثيرون سواهما؟ وما الفارق في ما خصّ حكم بلد ما بين هؤلاء وسياسيّين فاسدين كمعظم حكّام كوريا الجنوبيّة ممّن وُصفوا بممالأة الاستعمار والإمبرياليّة؟
المشكلة تكمن هنا بالضبط: في أنّ لا صلة مطلقاً بين الموقف من الاستعمار وحكم البلد بعد استقلاله، علماً بأنّ الاستعمار قد يدير البلد المعنيّ بكفاءة أكبر وفساد أقلّ. ما يعنيه هذا أنّ النضال ضدّ الاستعمار والإمبرياليّة، والحال هذه، يغدو عديم الصلة بالسياسة، وغالباً ما يغدو مضادّاً للسياسة، إذ يُستعمل ذاك الرصيد النضاليّ القديم لإنشاء «شرعيّة ثوريّة» تعطّل الشرعيّة الدستوريّة وتمنع تداول السلطة وتجدّد النُخَب.
وحين يغدو النضال ضدّ الاستعمار في مكان بينما سَوْس المجتمع والدولة في مكان آخر يصبح جائزاً التعامل مع ثوّار الأمس بوصفهم طالبي ثأر، لم يكن هدفهم سوى الحلول في السلطة، هم وأقاربهم وجماعاتهم، محلّ الاستعمار. هكذا يصير من المفهوم أن تحلّ الرابطة القرابيّة محلّ الدولة والوطن، وأن يترافق الكلام عن زوما مع التذكير بانتسابه إلى عشيرة ماشولوزي، وعن بوتفليقة مع المعنى السياسيّ لولادته في مدينة وجدة بالمغرب، وعن حافظ الأسد مع الطائفة العلويّة، وعن صدّام حسين مع سنّة تكريت و«المثلّث السنّيّ»، وهكذا دواليك.
تضعنا هذه التجارب ومثيلاتها أمام ضرورة التمييز بين الحقّ المؤكّد للشعوب في التحرّر الوطنيّ، أو في التغيير الاجتماعيّ، وبين نقص الوعي بهذين التحرّر والتغيير عند الكثيرين من قادتهما ومن طالبيهما. النقص هذا، نقص التفكير ببناء وطن ودولة، لا يتفاداه النشيد الوطنيّ والعلم، ولا التشدّق بسنوات النضال وبأعداد الشهداء الذين سقطوا ويسقطون وقد يسقطون. إنّ المسألة أكثر وأعمق وأشدّ تعرّجاً والتواءً من هذا، لكنّ أوّلها حُكماً هو إسقاطُ تلك الادبيّات السقيمة والكاذبة التي تزحم عالمنا بضوضاء رخيصة.

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

 عن تحرير مفهوم التحرّر  عن تحرير مفهوم التحرّر



GMT 18:19 2022 السبت ,22 كانون الثاني / يناير

كرة ثلج شيعية ضد ثنائية الحزب والحركة!

GMT 17:28 2022 السبت ,22 كانون الثاني / يناير

مقتطفات السبت

GMT 17:26 2022 السبت ,22 كانون الثاني / يناير

سؤالان حول مسرحية فيينا

GMT 08:29 2021 الأربعاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

مجلس التعاون حقاً

GMT 08:28 2021 الأربعاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

نعم هي «الحفرة اللبنانية»

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 18:08 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

نتنياهو يعلن اعتراف إسرائيل بأرض الصومال دولة مستقلة
 لبنان اليوم - نتنياهو يعلن اعتراف إسرائيل بأرض الصومال دولة مستقلة

GMT 12:50 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الثور الأحد 1 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 11:49 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

من المستحسن أن تحرص على تنفيذ مخطّطاتك

GMT 22:30 2021 الأحد ,10 كانون الثاني / يناير

يشير هذا اليوم إلى بعض الفرص المهنية الآتية إليك

GMT 22:08 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج القوس الأحد 1 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 12:17 2020 الثلاثاء ,02 حزيران / يونيو

كن قوي العزيمة ولا تضعف أمام المغريات

GMT 13:08 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج السرطان الأحد 1 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 21:05 2021 الأحد ,10 كانون الثاني / يناير

تطرأ مسؤوليات ملحّة ومهمّة تسلّط الأضواء على مهارتك

GMT 05:03 2022 الأربعاء ,06 تموز / يوليو

أفكار بسيطة في الديكور لجلسات خارجية جذّابة

GMT 19:23 2021 الجمعة ,16 تموز / يوليو

حريق كبير في بينو العكارية اللبنانية

GMT 13:08 2019 الإثنين ,04 شباط / فبراير

أمير منطقة الرياض يرأس جلسة مجلس المنطقة
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon