من بونداي إلى تدمر تحدي «داعش» العابر للحدود

من بونداي إلى تدمر... تحدي «داعش» العابر للحدود

من بونداي إلى تدمر... تحدي «داعش» العابر للحدود

 لبنان اليوم -

من بونداي إلى تدمر تحدي «داعش» العابر للحدود

بقلم : يوسف الديني

في لحظة بدت عابرة على شاطئ سياحي هادئ في سيدني، تحوّل احتفال إلى مجزرة، وفي صحراء تدمر السورية سقط جنود أميركيون بنيران مهاجم واحد. جغرافياً لا يجمع بين الحدثين شيء، لكن استراتيجياً وفكرياً يجمعهما الكثير: عودة الإرهاب لا بوصفه تنظيماً مسيطراً على الأرض، بل بوصفه فكرة قاتلة عابرة للحدود، تتحرك عبر الأفراد، وتستثمر في «الذئاب المنفردة» أكثر مما تستثمر في الجيوش والرايات، وهي اليوم تستثمر في «عائلات مستذئبة» عطفاً على اشتراك الوالد والولد في هجوم أستراليا الدموي.

ما جرى في شاطئ بونداي لم يكن حدثاً مفاجئاً خارج السياق، بل حلقة مكررة في مسار تطرف طويل. فالمهاجم، نافيد أكرم، كان معروفاً لدى أجهزة الاستخبارات الأسترالية منذ عام 2019، حيث خضع لتحقيقات بسبب ارتباطه بدائرة متطرفة قريبة من تنظيم «داعش»، ثم صُنّف لاحقاً بوصفه «غير مهدد». هذا القرار - الذي بدا آنذاك مبرراً لدى السلطات الأسترالية - انكشف اليوم بوصفه أحد حدود الفهم الأمني القاصر للإرهاب الذي يطور من أدوات تجنيده واستقطابه، صحيح أن أكرم لم يكن عضواً تنظيمياً فاعلاً، ولم يكن يتحرك ضمن خلية عملياتية نشطة، لكنه كان منغمساً في ثقافة تنظيم «داعش»: الفكرة المسيطرة، والرمزيات، والسردية والولاء النفسي والعاطفي للعنف الفوضوي لصالح استراتيجية «إدارة التوحش».

هذه هي النقطة الجوهرية في تحوّلات «داعش» التي تبدو مفاجئة كل مرة لمن يتعامل معه باستخفاف أو يعتقد أنه قد انتهى، فالتنظيم الذي خسر «الخلافة» المزعومة في العراق وسوريا لم يضمحل أو يتلاش رغم تراجعه وأسر كثير من أنصاره، بل أعاد تعريف نفسه. عبر الابتعاد عن التموضع المكاني، وبناء «دولة متخيلة» يعيشها أتباعه ذهنياً ورقمياً. خلافة لا تحتاج إلى حدود، ولا إلى قيادة هرمية واضحة، ولا حتى إلى تواصل تنظيمي مباشر. يكفي أن يؤمن الفرد بالفكرة، وأن يستهلك خطابها، وأن يتشبع بثقافتها الدموية، ليصبح بمثابة مشروع منفذ محتمل.

الهجوم على القوات الأميركية في تدمر يعكس الوجه الآخر للمسألة ذاتها. حسب التحقيقات، نفذ الهجوم مسلح واحد متردد بين الانتماء لتنظيمات عدة استطاع التسلل ليس إلى فصيل أمني فحسب، بل إلى اجتماع مغلق، مستفيداً من الثغرات الأمنية وحالة التشابك الآيديولوجي ليقوم بعملية قتلت جنوداً أميركيين ومترجماً، وأسهمت في إرباك الحكومة السورية الجديدة، وإعادة طرح سؤال العلاقة بين الفكرة المسيطرة والتحولات.اللافت أن تنظيم «داعش»، بالتوازي مع توسعه الدموي في غرب أفريقيا - حيث يستعيد نماذج السيطرة والتمكين وإعادة الانتشار - لا يتخلى عن حضوره العالمي الذي يحافظ له على مزيد من الاستقطاب الرقمي والتجنيد، ومن هنا بات التنظيم ينوّع أدواته. في أفريقيا لديه مناطق سيطرة جغرافية، وفي أوروبا وأستراليا ومناطق متعددة من العالم، بمثابة دولة فكرة متطرفة مسيطرة و«ذئاب منفردة» تنتظر الفرصة. هذا التوزيع ليس عشوائياً، بل يعكس فهماً عميقاً لاختلاف البيئات الأمنية والاجتماعية. حيث يصعب التحرك التنظيمي الجماعي، ويسهل تحرك الفرد في ظل عدم معالجة ثقافة البيئات الخصبة لتمدد التنظيم، لا سيما على شبكات التواصل.

شبكة الإنترنت هي المسرح الحقيقي لهذا التحول. لم تعد منصات التواصل مجرد أدوات دعاية، بل تحولت إلى معسكرات تدريب رقمية كاملة: من إعادة تأطير الآيديولوجيا والمظلومية، إلى تطبيع العنف، إلى تقديم نماذج «بطولية» للقتل الفردي، وصولاً إلى الإيحاء بالتخطيط والتنفيذ والمتابعة النفسية بعد العملية. في هذا الفضاء، لا يحتاج المجنَّد إلى لقاء، ولا إلى تعليمات مباشرة. يكفي أن يشعر بأنه جزء من سردية كبرى عالمية، وأن فعله - مهما بدا صغيراً - سيُقرأ بوصفه انتصاراً للتنظيم.

هنا تحديداً تتعثر المقاربات الأمنية القديمة. فمراقبة الأفراد، مهما بلغت دقتها، فإنها تظل فعلاً لاحقاً، وردّ فعل على إشارات قد لا تبدو خطرة في لحظتها. نافيد أكرم لم يكن «خطراً وشيكاً» وفق معايير 2019، لكنه كان بمثابة مشروع خطر مؤجل. والتطرف، بخلاف الإرهاب التنظيمي، لا يسير بخط مستقيم، بل يتقدم ويتراجع لأنه يتغذى على تحولات نفسية واجتماعية لا يمكن رصدها فقط عبر السجلات الأمنية.

معركة «الذئاب المنفردة» لا تُحسم بالرقابة وحدها، بل باستراتيجية استباقية شاملة تعالج الجذور لا الأعراض. المطلوب ليس فقط تعقّب الأفراد، بل تفكيك منظومة الاستقطاب ذاتها: الخطاب، والرموز، والسرديات، والبيئات الرقمية التي تمنح العنف معنى وهوية. فك الارتباط بين «داعش» وبين أي بيئة حاضنة لفكره - دينية كانت أو اجتماعية أو افتراضية - هو التحدي الحقيقي.

في هذا السياق، تبرز التجربة السعودية بوصفها نموذجاً ناضجاً ومختلفاً. فالمقاربة السعودية لم تختزل الإرهاب في البُعد الأمني، بل تعاملت معه بوصفه ظاهرة فكرية وثقافية ونفسية. من برامج مناقشة الفكرة والتنبه لخطرها على مستوى القيادة السياسية والمجتمع، إلى تجفيف منابع التمويل، إلى تفكيك الخطاب المتطرف، إلى الاستثمار في الوقاية المبكرة داخل الفضاء المجتمعي، وصولاً إلى المواجهة الرقمية المنظمة. هذه التجربة لا تدّعي الكمال، لكنها تقدم درساً مهماً: الإرهاب لا يُهزم فقط حين يقتل أفراده فحسب، بل حين يُفقد معناه وجاذبيته داخل المجتمعات.

العالم اليوم أمام لحظة مفصلية. «داعش» لم يعد عدواً بملامح واضحة يمكن الإشارة إليها، بل بات شبكة أفكار متنقلة، تستثمر في الهشاشة الفردية، وفي الفراغات السياسية، وفي الفوضى الرقمية. مواجهة هذا النمط تتطلب استراتيجية عالمية موحدة، لا تقوم فقط على تبادل المعلومات الأمنية، بل على تنسيق فكري وإعلامي وثقافي، ومن دون ذلك سيظل كل تجمع مزدحم، احتفالياً كان أو سياحياً، مساحة مفتوحة لفكرة قررت أن تجعل العالم ساحة تهديد دائمة.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

من بونداي إلى تدمر تحدي «داعش» العابر للحدود من بونداي إلى تدمر تحدي «داعش» العابر للحدود



GMT 21:13 2025 السبت ,27 كانون الأول / ديسمبر

درب السلام

GMT 21:12 2025 السبت ,27 كانون الأول / ديسمبر

لَا أَحسَبُ الشَّرَّ جَاراً!

GMT 21:10 2025 السبت ,27 كانون الأول / ديسمبر

من الوحدة الشاملة إلى براكين الدَّم والتَّشظّي

GMT 21:10 2025 السبت ,27 كانون الأول / ديسمبر

«داعش» وأعياد نهاية العام

GMT 21:07 2025 السبت ,27 كانون الأول / ديسمبر

المسيحية الصهيونية... من الهرطقة إلى تبرير الإبادة

GMT 21:06 2025 السبت ,27 كانون الأول / ديسمبر

المعنى الغائب في أكثر صراعات العالم حضوراً

GMT 21:05 2025 السبت ,27 كانون الأول / ديسمبر

حين قرأ كسينجر لحسن البنا

GMT 21:04 2025 السبت ,27 كانون الأول / ديسمبر

«ماغا»... رأب الصدع أم نهاية الائتلاف؟

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 04:11 2025 الخميس ,08 أيار / مايو

البرج الطالع وتأثيره على الشخصية والحياة

GMT 16:08 2024 الخميس ,24 تشرين الأول / أكتوبر

الأمير فيصل بن فرحان يترأس وفد السعودية في قمة "بريكس بلس"

GMT 07:38 2023 الثلاثاء ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل 10 عطور رقيقة للعروس

GMT 19:43 2021 الخميس ,07 كانون الثاني / يناير

الأردني محمد الدميري يتفوق على السوري عمر السومة

GMT 19:02 2022 الجمعة ,07 كانون الثاني / يناير

ساؤول يتطلع إلى استعادة أفضل مستوياته مع تشيلسي

GMT 20:30 2021 الإثنين ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أثيوبيا تنفي شنّ هجوم على السودان وتحمل متمرّدين المسؤولية

GMT 08:19 2019 الأربعاء ,09 كانون الثاني / يناير

تغريم امرأة تركية خرقت "واجب الإخلاص" لطليقها وهربت مع صهره

GMT 23:04 2021 الأربعاء ,13 كانون الثاني / يناير

إصابة تريزيجيه بفيروس كورونا وابتعاده عن مباريات أستون فيلا

GMT 06:35 2017 الأربعاء ,13 كانون الأول / ديسمبر

التلميذ.. ونجاح الأستاذ
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon